شاهدتُ مقطعا قصيرا عن مليونير الفنادق البريطاني بيتر سميدلي، الذي أقدم على إنهاء حياته أمام الكاميرا في فيلم وثائقي بثته الـ «بي بي سي» قبل أيام. كان بيتر يعاني من مرض العُصاب الحركي، وهو مرض نادر يصيب الإنسان فوق سن الخمسين، حيث يسبب آلاما مبرحة في المفاصل وفي مختلف أجزاء الجسم. تجرع بيتر كمية من دواء قاتل أدى بعد ثوانٍ قليلة إلى مفارقته الحياة، ولكن العجيب في تلك اللحظات القصيرة هو أنه شكر من كان حوله، ثم أمسك بيد زوجته وقال لها بكل هدوء: «كوني قوية يا عزيزتي»، وأغمض عينيه، في مشهد قاسٍ جداً ولكنه غريب إلى أبعد الحدود، فعلى رغم مخالفته لكل الأعراف الإنسانية والأديان السماوية، فإن بيتر بدا سعيدا بقرب رحيله، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة منذ زمن.
لا أعرف شخصا لا يعاني من آلام نفسية أو جسدية، ولكن يختلف الناس في طريقة تعاملهم مع الألم، وفي طريقة تعريفهم له. فهناك من يتصالح مع ألمه ويعتبره جزءا من حياته، ولا يهمه إن زاد أو نقص طالما أنه قادر على التبسّم كل يوم. أعرف شخصا مدينا بأكثر من ثلاثين مليون درهم وليست لديه وظيفة، وكلما جلستُ معه وجدته أكثر تفاؤلا مني، وأكثر قدرة على الإبداع في الحياة. وهناك من يشتكي من آلامه طالما وجد من ينصت إليه، حتى يتمكن منه الألم كحيوان مفترس أدرك فريسته. إن أكثر الألم قسوة هو أن نفقد الإيمان بغدٍ أفضل.
يمكن للطب أن يشفي كثيرا من الأمراض الجسدية والنفسية، ولكنه يعجز عن شفاء الأمراض الروحية. أختلف مع من يصنف النفس بأنها تندرج تحت الروح، بل أعتقد بأن الروح هي المظلة التي يتفيأ ظلالها الجسد والنفس معا، وعندما يترك الإنسان جسده عرضة للألم، ويرمي بزمام نفسه في يد الأحزان، يسيطر عليه الخوف ويكتنفه اليأس، فيدخل في حالة «فوضى روحية» يفقد فيها السيطرة على رغباته ومشاعره، ولا يعرف ماذا يريد.
شيئان فقط يستطيعان أن يلامسا روحك: الحب والإيمان. فالحب يجعل النفس جريئة، مقبلة على التضحية من أجل السعادة، وليس من أجل الشقاء كما يفعل البعض. والإيمان يجعل النفس قوية، قادرة على التقدم نحو ما تريد دون خوف أو تردد، وبهما مجتمعين يستطيع الإنسان أن يتغلب على اليأس. فالحب يشبه حزام الأمان في السيارة، يمنحنا الثقة على دروب الحياة، وعندما نضطر أحيانا إلى سلوك طرق مظلمة أو وعرة فإنه يشعرنا بأن هناك من يضمنا إلى صدره؛ ليحيل الظلام نوراً، والخوف حبوراً. أما الإيمان فإنه كالوسائد الهوائية في السيارة، وإذا ما خرج أحدنا عن مساره وتدهورت به الأيام أو انقلبت به الظروف، فإن الإيمان وحده ما يمكنه أن يخفف من تلك الصدمات، ويمنحه الطمأنينة رغم الألم. إنه من يجعل الناجي يقول: «الحمد لله أنني لم أمت في ذلك الحادث»، ليس لأنه مازال حيا فقط، ولكن لأن رجله الوحيدة المتبقية، ستصبح مع مرور الوقت، قادرة على حمله لتسلق الجبال.
تساءلتُ بعد أن شاهدتُ ذلك الفيلم: لماذا ينهي الإنسان حياته؟ وبعد ليلة كاملة من التفكير توصلتُ إلى أن بيتر كان عاجزاً عن استحضار السعادة القادمة في المستقبل، أو في استرجاع الذكريات الجميلة، أو المختبئة في التفاصيل الصغيرة؛ فتلك مضادات للألم، ومسكنات، نحتاجها كثيرا، لمقاومة اليأس. ما أغرب من كانت لديه الشجاعة لينهي حياته، ولم تكن لديه الشجاعة لمواجهة آلامه!
يفقد المرء مروءته عندما يتحدى كل الصعاب حوله ويجبن عن مجابهة الصعاب التي تلجّ في داخله. إن لكل عاصفة نهاية، ولكل موجة انكسار، ووحده من يؤمن بذلك يتعلم السباحة؛ حتى لا يخشى الغرق. إن من سذاجة الإنسان أن يتعلم السباحة وقت العواصف، ومن جُبنه ألا يفعل ذلك. ولئن أكون شجاعاً ساذجاً، خير من أن أكون جباناً واقعياً.
أتساءل أحيانا كيف يجد الإنسان السعادة في عالم مليء بالآلام؟ لا يمكننا أن نزرع العالم بالأزهار، ولكن يمكننا أن نزرع واحدة لنراها كل يوم ونحن نخرج من البيت. ولا يمكننا أن نبني العالم من حولنا مثلما نريد، ولكن يمكننا أن نبنيه في داخلنا كيفما نشاء. العالم الداخلي ليس انعكاسا للخارجي إلا لدى المتشائمين الذين يعيشون على هامش الوجود. قرأتُ مرة بأن الأطباء استخرجوا دواءين لعلاج القلب، ودواءً لمحاربة السرطان، وآخر لعلاج أمراض الدماغ، من داخل أفعى، فتساءلتُ كيف يمكننا أن نجد الدواء في داخل الأفاعي ولا يمكننا أن نجده في داخل البشر!
يقول زرادشت: «الفائضون عن اللزوم يجعلون من موتهم أمراً مهماً، والجوزة الفارغة هي أيضاً تود أن تُكْسَر»... إن من يتعلق بالحياة لن يُحسِنَ الموت، ومن يتعلق بالموت لن يُحسن الحياة
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3325 - الجمعة 14 أكتوبر 2011م الموافق 16 ذي القعدة 1432هـ
إن لكل عاصفة نهاية
مقال جميل ومؤثر صحيح أن الشجاعة ليس في الإنتحار ولكن في الصبر على الإبتلاء .