في أحدث الدراسات عن الربيع العربي في دول النفط نشرتها مجلة «الفورين افيرز» الأميركية عدد سبتمبر/أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2011 بعنوان: هل يغرق «النفط الربيع العربي؟» بقلم أستاذ العلوم السياسية البروفسور مايكل روس قدم تحليلا موضوعيا إلى حد ما لاستخدام عوائد النفط من قبل الحكام العرب في الدول النفطية للتخفيف عن معاناة الجماهير والاستجابة لمطالبهم الاقتصادية ومن ثم تهدئة المطالب السياسية وكان العنوان ملفتاً للنظر بالتساؤل هل يغرق النفط الربيع العربي؟ وأبرز أن الدول التي نجح فيها الربيع العربي هي دول غير نفطية يعاني شعبها الكثير من المصاعب الاقتصادية وأن ثورته جاءت على أساس هذه المطالب الاقتصادية ثم تطورت إلى المطالب السياسية.
ومع التقدير للتحليل الذي قدمه الباحث الأميركي فإن ثمة روحا استعمارية تفوح منه وخاصة في بداية المقال عندما يتحدث عن تطور أسعار النفط وان الشعوب كانت هادئة عندما كانت أسعار النفط رخيصة وأن الشركات السبع كانت تسيطر على إنتاج النفط وأن عوائده للدول صاحبة النفط كانت محدودة وكأن الباحث يتحسر على تأميم النفط وحصول الدول النفطية على عوائد كبيرة تستخدم في نهضة الدول العمرانية وأيضاً في التجاوب مع مطالب الشعوب العربية، وبعد هذا التحفظ فإن كثيراً من أفكاره هي تقرير للواقع. إذ إن استخدام أموال النفط الضخمة في مشروعات جديدة في الدول النفطية وفي زيادة المرتبات والأجور وتقديم خدمات ومزايا إلى الشعوب النفطية كان عاملاً رئيساً في عدم امتداد الثورات إلى تلك الدول وفي حال بروز إرهاصات في التغلب عليها بسهولة وبسرعة. وهنا نطرح السؤال المنطقي: أليس هدف كل حكومة في العالم هو البقاء في السلطة من أجل خدمة الشعب والاستجابة لمطالبه؟، فإذا كان ذلك هو هدف النظم السياسية إذن فلا تثريب على الدول النفطية الاستجابة لمطالب شعوبها وزيادة مرتباتهم وتوفير خدمات لهم وإتاحة فرص العمل وتطوير البنية الأساسية وغيرها من الخدمات ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى المؤلف القيم للبروفيسور غابريل الموند وآخرون المعنون بـ: «السياسة المقارنة» والذي أوضح فيه أن من أهداف السياسة العامة في أي نظام سياسي الحفاظ على الاستقرار والمقدرة على التكيف. فالاستقرار يتيح التنمية وتحقيق أهداف النظام في الحفاظ على الأمن الداخلي والدفاع الخارجي وإقرار العدالة والتي هي الأهداف الرئيسة للنظام السياسي في الفكر التقليدي، أما التكيف فيتيح تطوير الأنظمة بصورة تدريجية للتجاوب مع المتغيرات والمستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية.
من هذا المنطلق؛ ننظر إلى وضع النظم الملكية وبخاصة في منطقة الخليج مقارنة بالنظم الجمهورية في البلاد العربية الأخرى وخاصة غير النفطية لنجد أن تلك النظم أكثر استقراراً وربما يرجع ذلك لعدة أسباب من بينها ما يأتي:
أولها: بعد نظر تلك النظم في توفير الاحتياجات الأساسية لشعوبها وتطوير البنية الأساسية بها ولهذا نجد البنية الأساسية في دول مثل الأردن على رغم مواردها المحدودة، أو دول الخليج أكثر تطورا من البنية الأساسية في كثير من الدول ذات النظم الجمهورية.
ثانيها: تأثير البعد الإقليمي في تطور النظم الملكية وفي استقرارها الأمني والسياسي؛ فدول الخليج على سبيل المثال أكثر تماسكا وتلاحما فيما بينها من دول التجمعات العربية الاخرى مثل اتحاد المغرب العربي أو الاتحادات الكثيرة التي تمت بين مصر وسورية أو مصر والعراق أو مصر والسودان أو مصر وليبيا أو سورية والعراق عندما كان يحكمهما حزب واحد هو حزب البعث. أو اليمن بعد توحيد الشمال والجنوب في دولة واحدة سرعان ما حدثت معارك العام 1994 وتم قمعها بالقوة ثم عاد الحراك الجنوبي مجددا وهكذا فانه في المقابل تم حل النزاع البحريني القطري بالطرق القضائية عن طريق محكمة العدل الدولية وظل مجلس التعاون لدول الخليج العربية صامداً عبر ثلاثين عاما على رغم التحديات التي يواجهها.
ثالثها: إن تطورها السياسي التدريجي هو انعكاس لتطور مجتمعاتها بل أحياناً المجتمعات أكثر محافظة من القيادات السياسية في بعض هذه الدول، خذ على سبيل المثال حالة المرأة في الكويت عندما صدر مرسوم أميري منذ عدة سنوات بإعطائها حقوقها وأحيل إلى البرلمان لإصدار التشريع اللازم اتخذ مجلس الأمة الكويتي، المفترض انه معبر عن الشعب، جانب الرفض، والشيء نفسه في البحرين عندما أتيح للمرأة حق الترشح والانتخاب وفقاً لدستور المملكة، الذي أصدره الملك العام 2002 في إطار مبادرته الإصلاحية، لم تنجح المرأة في المجالس البلدية أو النيابية إلا بالتزكية في المرة الثانية بل إن الجمعيات السياسية لم ترشح على قوائمها إلا سيدة واحدة هي جمعية وعد، ومع هذا لم يقدر لها أن تفوز في الانتخابات، لتأثير التوجهات الدينية والاجتماعية في المجتمع التي تجعل رجل دين مثل إمام مسجد متوسط الثقافة يفوز في الانتخاب ضد أستاذة جامعية. باختصار؛ العبرة في الانتخابات هي بالتعامل مع أهالي الدائرة الانتخابية، وفقاً لاحتياجاتهم وأولوياتهم، وليس وفقاً لفكر سياسي أو إيديولوجي أو أكاديمي نظري أو غيره.
ولعلنا نستذكر أعضاء مجلس النواب الأميركي الذين بعضهم لا يعرف شيئاً في السياسة الخارجية أو القضايا الدولية وإنما يهتم بمصالح دائرته فيفوز بأصواتها.
ولقد أثار انتباهي حديثا عندما كنت أقرأ في احد المؤلفات الأجنبية للبروفسور ريتشارد هغوت عن نظرية التنمية السياسية، انه عندما عرض لدراسات وآراء عدد من الأساتذة الأميركيين في العلوم السياسية وخاصة في علوم التنمية السياسية، ذكر أن ثمة شبه إجماع على إخفاق النماذج الغربية، إذا طبقت كما هي في البلاد النامية لاختلاف التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومرحلة التطور الاجتماعي، هذا بالطبع لا يعني عدم أهلية شعوب البلاد النامية للديمقراطية، كلا وإنما الديمقراطية والتنمية السياسية لها مراحل تطور تتماشى مع مراحل تطور المجتمعات، وكثير من كبار المفكرين والمنظرين في الفكر السياسي الثوري ثبت إخفاقهم، ولعل من أشهرهم كارل ماركس الذي تنبأ بقيام الثورة الشيوعية في بريطانيا الصناعية، فقامت في روسيا القيصرية، وجعل البروليتاريا أي الطبقة العاملة هي المحركة للتطور السياسي، فأثبت ماوتسي تونغ في الصين أن القوة المحركة هي الفلاحون وليس العمال، وقاد ثورته بعد دراسة المجتمع الصيني وقدم تقريره العام 1927 للحزب الشيوعي الصيني، وهكذا أطاح بالنخبة الشيوعية التي تأثرت بالفكر الماركسي التقليدي، وعبر بفكره عن تجربة مجتمعه.
كما لفت نظري أيضاً أن بعض منظمات حقوق الإنسان التي شاركت في الاجتماع الأخير لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عبرت عن خيبة أملها في نتائج اجتماعات وقرارات المجلس وعدم تعبيره عما رغبت تلك المنظمات في تحقيقه لدرجة أن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان طرح سؤالاً في تقريره عما إذا كان الربيع العربي قد انتهي وتحول إلى صيف ساخن؟
وهذا كله يدعونا للقول إن الربيع العربي ليس بالضرورة ربيعاً وليس بالحتمية عربيّاً، فهناك قوى إقليمية ودولية لها مصالح تتعارض مع مصالح شعوب المنطقة، وهناك مراحل التطور ينبغي مراعاتها وثبت أن نظرية حرق المراحل نظرية غير سليمة، ولهذا كان أول الثوريين الذين تمردوا عليها لينين، عندما أعلن قيام الثورة الاشتراكية في روسيا، وتابعه ستالين، وتوارى واختفى في غابات أميركا الجنوبية تروتسكي ونظريته في الثورة الدائمة، كما لحقه تشي غيفارا الأسطورة الثورية، أما الثوري الفيتنامي هوشي منه فقد نجح في تطوير بلاده وتبعه بالفكر العقلاني الواقعي المتطور خلفاؤه، وقد أخفقت الثورة الروسية بعد سبعين عاماً، لأنها تجاهلت الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع مركزة فقط على القوة العسكرية والتوسع في الخارج بدلاً من بناء الاشتراكية على أسس سليمة في وطنها، وهذا ما أدى إلى إخفاق الربيع الروسي الذي قاده غورباتشوف مقارنة بالتنمية الاقتصادية الصينية التي قادها دنج سياو بنغ التي حققت كثيراً من تطلعات الشعب الصيني نحو غد أفضل، وجعلت اقتصادها هو الاقتصاد الثاني على مستوى العالم بعد الاقتصاد الأميركي، وهناك دراسات غربية تشير إلى أنه سيكون الاقتصاد الأول على مستوى العالم في إجمالي الناتج المحلي في العام 2019، هذا على رغم أن التنمية والتطور السياسي الصيني مازال في بدايته بالمنطق والمقاييس الغربية.
وفي المجال الاقتصادي؛ نجد أن ما يطلق عليه توافق بكين «Beijing Consensus» أكثر نجاحاً في التغلب على الأزمات الاقتصادية وحفز النمو الاقتصادي مما يطلق عليه توافق واشنطن «Washington Consensus» الذي بلوره خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وفكرهم الرأسمالي النظري القائم على الحسابات المجردة من دون الأخذ في الحسبان الظروف الاجتماعية والثقافية وتقاليد كل مجتمع، حتى في المجال الاقتصادي، لأن هذا كله يؤثر في سلوك المستهلك وفي عمليات الادخار والاستثمار، ومن ثم في حركة دوران العملية الاقتصادية ودورة النقود وغيرها، ولهذا أصبح الصندوق والبنك الدوليين ذوي سمعة غير طيبة في الكثير من البلاد النامية.
وقد أثبتت الأزمة المالية العام 2008 - 2009 أن الرأسمالية المطلقة غير سليمة، ولابد من تطعيمها بتدخلات للدول، وان فلسفة (دعه يعمل دعه يمر) «Laissez Faire Laissez Passer» التي عبرت عنها الرأسمالية التقليدية ومفكروها من آدم سميث ودافيد ريكاردو وغيرهما عفا عليها الزمن، وان وضع قواعد الانضباط المالي والاقتصادي ضرورة لا غنى عنها حتى في ظل الرأسمالية، وكذلك قواعد العمل السياسي كما حدث في المظاهرات الأخيرة في بريطانيا والولايات المتحدة خلال سبتمبر/ أيلول 2011، وقواعد الانضباط الثقافي كما يحدث بالنسبة للزي في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية.
إن أساس الحرية هو الانضباط وتطبيق القانون على الجميع، على حد سواء وليس تفسيره وفقاً لهوى الأفراد، كما أن للعمل السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي قواعده المعروفة لدى الخبراء والمتخصصين في كل مجال.
ولعل ذلك كله هو من العبر والدروس المستفادة من تجارب الربيع العربي أو ما أطلق عليه الصينيون في ندوة عقدت في جامعة شنغهاي في سبتمبر 2011 أنه عملية تغيير في الدول الشرق أوسطية.
والثوري الحقيقي كما أعلن الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) منذ فترة طويلة في احدى كتاباته، هو الذي يثور ضد الظلم ثم يهدأ ليبني، أما ما يطلق عليه الثائر الدائم أو المعارض الدائم كما في بعض الدول العربية، حيث تكون بعض الأحزاب مشاركة في الحكومة، ومع ذلك تطلق على نفسها أنها أحزاب معارضة، فهذا أمر غير مفهوم، وهو ما يذكرنا بما عبرت عنه فلسفة الوضعية المنطقية من ضرورة تحديد معاني المصطلحات والألفاظ حتى يمكنها أن تدل على مسمياتها، وليس كل فرد يطلق المصطلحات جزافاً خارج معانيها وخارج سياقها، ومن هنا تظهر معضلة ما يسمى بحوار الطرشان «Dialogue of the Deaf» عندما يطلق كل فريق المصطلحات بما في ضميره أو في فكره في حين أن المصطلحات في اللغة هي أداة الفهم المشترك والتواصل الاجتماعي والسياسي، ولعل لغتنا العربية الجميلة مطاطة بالقدر الكافي الذي يجعل كثيراً من السياسيين والأدباء يطنبون فيتوسعون في إطلاق المسميات على غير معانيها، كما أطلق صحافي وكاتب مصري مشهور اسم النكسة على الهزيمة العام 1967م، ومن هنا اعتقد أننا في حاجة ماسة لإعادة دراسة اللغة العربية والمصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحديد معانيها بدقة، حتى يمكننا التواصل مع بعضنا بعضاً، وتجنب اللبس وسوء الفهم ولا نقع في عمليات النصب الدولي فيما يسمى بعملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وهي حقّاً عملية مستمرة، ولكن من دون سلام لأن الأطراف ليسوا على قلب رجل واحد كما يقول المثل
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3320 - الأحد 09 أكتوبر 2011م الموافق 11 ذي القعدة 1432هـ