في الصمت تأمُّل، وفي الصمت خيبة وارتداد وتراجع أحياناً. ليس دائماً «السكوت من ذهب». كثيراً ما يكون السكوت من رماد ودمار. كثيراً ما يكون مهلكة، ودفعاً وتحريضاً على الحياة؛ مثلما يكون الكلام أحياناً انتحاراً ومهلكة، امتثالاً لقول سيد البلغاء والمتكلمين علي بن أبي طالب (ع): «مقتل المرء بين فكّيه».
في حيّزنا الخاص، نحتاج إلى الصمت لنكبر في أفكارنا، وننتج رؤيتنا في الانطلاق إلى الحركة العامة. في مجتمعات وبيئات نحياها ونتعايش معها لن يفيد صمتنا، ولن يضيف إلى تلك الحركة شيئاً. صمتنا سيكون بمثابة خذلان لعناوين وموضوعات وملفات لا تحتمل مثل ذلك الموقف.
أحياناً، يكون صوتك إقامة في الحدث، وتفاعلاً معه، وتوجهاً إليه، وأحياناً على الضدّ من ذلك. وأحياناً يكون صمتك رفداً لعدالة الحدث، بالحكمة والأناة والتثبّت، ومزيد من المراجعة. لكن ليسوا كثيرين هم الذين يعون تلك المعادلة وتوقيتها. أن تصمت في موضع الكلام والاحتجاج، يعد ذلك خذلاناً بيّناً، وأن تتكلم في موضع الصمت يعد ذلك حماقة وأذى يطول الذين اعتقدت أنك بالموقف ذاك تنتصر لهم، وتنحاز إلى خيارهم، وتأوي إلى ركنهم. ومثلما يؤذي الصوت والاحتجاج أحياناً، كذلك يؤذي الصمت في الموضعين المفترضين ضمن لحظتهما، وضمن شرطهما، ومحاولتهما في النظر والتقدير.
الأشياء نفسها على طبيعة جمودها، لا تلتزم الصمت في وجودها وحضورها الكلي. للبراكين احتجاجها، وللأرض صرختها بالزلازل، وللطقس مباغتاته في ظواهر طبيعية ألفتها الأرض والمخلوقات، من فيضانات وأعاصير وجفاف. الإنسان أوْلى من كل الكائنات بالصوت، بالاحتجاج، بقدرته على التغيير والتحول، عبر ذلك الموقف.
ليس شرطاً أن يكون للصوت حضوره الماثل، وليس شرطاً ألاّ حضور وتأثير للصمت. المسألة تكمن في قدرة أي من الموقفين في إحداث تغيير ومنعطف في الواقع والمكان والتوقيت الذي يطل فيه أحدهما. لا نريد للثرثرة والصراخ أن يكونا موسيقى وقتنا لنزيد من ضجرنا ضجراً، ولا نريد من الصمت أن يدفع بنا دفعاً إلى النوم أو القبر، حين يكون في توقيته السيئ.
قد نجد في مقولة أدونيس، شيئاً مما تطرحه هذه الكتابة: «من يصمت كثيراً، كمن يتكلم كثيراً. يتفكك، ويتبخر»، وليس بالضرورة في الوقت نفسه أن نتفق معها. فالصمت الكثير، أحياناً، نظر كثير وعميق يجس وقت ومكان وأنفس المرحلة فيها. يقرأ جيداً. والكلام الكثير أحياناً، في معناه وقيمته، وفي ظرفه التاريخي ولحظته الحرجة التي لا تقوم على الصمت بل على الصوت، وما يتبعه من أدوات، إن تطلبت المرحلة ذلك، هو نص واع وعميق وفاعل في المواجهة. وكثيراً ما يكون الصوت وهماً، وكثيراً ما يكون الصمت في العمق من صراحة المواجهة.
وثمة كلام اليوم. كلام لا يتجاوز حنجرة صاحبه. كلام كأنه الموت. كلام لا أحد يتلقاه ويعتنق قيمته إلا الموتى. كلام يثبط ويحفز على التراجع في الوقت نفسه، والاستكانة والركون إلى الواقع، بكل جهنمياته ونيرانه. كلام يدفع البشر دفعاً إلى الالتحاق والتشبّه بالأشياء والتماس معها. وثمة صمت اليوم، بعيداً عن قيمة التوقيت والقراءة، أمرُّ وأخطر وأدهى. صمت يبرر، يبحث عن المخارج للتجاوزات والإسفاف والفساد والقتل والسرقة والإهانات والتمييز. صمت يعطي الضوء الأخضر لكل ذلك؛ كي يسرح ويمرح في حيوات شعوب وأمم. في الاثنين خطر ماثل، وخصوصاً إذا ما انطلقا من إعلاء الذات والأهداف الفردية، في تغييب للذات والأهداف الجمعية، وتغافلاً عنها.
عزلة أبي العلاء المعرّي، كانت صمتاً وسخرية من الكلام والثرثرة والجلبة والمديح للظل والأثر. كانت صمتاً وسخرية من معرفة زائفة لفّت بعض محيطات وأمكنة عصره. ولم تكن «رسالة الغفران» إلا حديثاً وصوتاً مع عالم مُتخيل وماثل في الوقت نفسه. لم يشأ أن تكون صوتاً مع من/ ما حوله. أراد لها أن تكون كلاماً وصوتاً ورؤية ونفاذاً إلى ما بعد المكان، وما بعد الزمان، وما بعد الصوت، وما بعد الصمت.
الحياة لا تنضج وتكبر بالصوت وحده. يحدث ذلك معها بالصمت أيضاً. والعكس صحيح؛ غير أن التجارب أثبتت أن الشيطان/الشياطين، من صمتهم يتحكمون في أمزجة وأعصاب وأخلاق ومواقف وخيارات البشر. شياطين الإنس والجن، وشياطين السياسة، وشياطين المزاج والكوارث. ثم إننا لا نريد أن نتقمّص أدوار الشياطين كي يكون لنا دور فاعل في الحياة. يمكن لنا بالصوت أن نخرّبه، ويمكن لنا بالصمت أن ندمّره تدميراً. فقط هو التوازن والمعادلات والتوقيت والقراءة الواعية لما حول كل منا.
وفي النهاية، يمكن للصمت أن يكون أفقاً، والصوت بئراً، والعكس صحيح. فقط هي قدرة كل منا على معالجة توقيت تعاطيه مع كل منهما، تبعاً للظرف والقيمة والهدف، وفي نهاية المطاف، النتائج المتحصلة من كل ذلك.
لكن تظل مقولة: «قل خيراً أو اصمت» دليل الاستشعار للتوقيت، ونصيحة من ذهب، أكثر ضمانة من ذهب الصمت
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3320 - الأحد 09 أكتوبر 2011م الموافق 11 ذي القعدة 1432هـ
مقال من ذهب
مقال افضل من ذهب الصمت والكلام معاُ..
واقع الأمثلة
للصمت أحيان ضجه تزعج البلبلة
وأحيان للصمت هيبه زي هيبة إمام
لو للهدواة مجال تجيك مستعجلة
مثل اكسجين ارتمى باقصى حدود المسام
مثل الغصن ذاك لجله تنتهك سنبلة
ولجله (احكروا) في دهاليز السلام الحمام
فزيت شالمشكلة؟؟ لاقيت لا مشكله
مجرد حروف سنّت (سيدي ) للعوام
من شك إن الحقيقة ترضع الأخيلة
وأن المآسي (فروخ ) الحب والانسجام؟
لا شفت بعض الحروف تشاغب الفاصلة
لا تندهش .. كلّبونا ما نحب النظام
ولا شفت سرب النحل ثملان من حنظله
طنّش ولا تعطي الموضوع أدنى اهتمام
أخوك المرحوم
مقال في غاية الروعة
نعم الصمت قد يكون جناية و جريمة لا تعتفر
الله بلخير يا جمري
سكوت الصقور ولا هدره الغربان الصقور تحسب لها افعالها في المقناص وهدره الغربان بدون اي فعل يذكر بس تاذي اذان خلف الله اشبعنا نعيق الجرح ينزف واحنا كل يوم انزف والبعض ما زال على وتر النشاز البغيض يعزف والبلد الى المجهول ومافيه غير الكلام اللي لا يودي ولا اييب وما يبين في الافق اي حل عقلاني والوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك فرص الحل تتضائل والحسبه اكيد مو صح