للمرة الثالثة، يخرج خائباً من مكتب رئيس البلدية دون أن يحظى بتوقيع معاملته؛ لوجود إشكالات في المعاملة كما أشار إلى ذلك الرئيس. خرج وقد احمر وجهه، وجحظت عيناه، وهو يتأفف، ويسب الظروف التي ألجأته أن يقف هذا الموقف الذي كان يتجنبه منذ تجربته الأولى القاسية، فقد كان يهرب من متابعة المعاملات الرسمية لعلمه أنها لا يمكن أن تكتمل من المحاولة الأولى، فدائماً ثمة نواقص، أو أوراق غير موجودة، أو طوابع غير مدفوعة، أو معلومات غير مكتملة، أو توقيع لم يمهر، أو ... مما برع به سدنة الدوائر الرسمية الذين يتفننون في البيروقراطية، واختراع الإجراءات الإضافية، والتجبّر على عباد الله، وكأنهم من طينة أخرى، أو كوكب آخر!
أشفق عليه أحد المراسلين وتعاطف معه، لما شعر بالمأزق الذي هو فيه، والضيق الذي يشعر به، ونيران الغضب التي بدأت تشتعل في صدره. ناداه بلطف وأدخله مكتباً فارغاً، وسأله: ما مشكلتك؟ ولم تسب وتشتم؟؟
- يا رجل... ثلاث مرات أراجع الرئيس، وفي كل مرة يقول لي المعاملة غير مكتملة.
- وماذا فعلت؟
- يطلب مني أن أراجع أحد الموظفين، الذي يطلب مني دائماً أن أعود بعد أسبوع، وعندما أعود آخذ المعاملة للرئيس فأجد الجواب نفسه، وأذهب إلى الموظف نفسه.
- اعطني معاملتك لو سمحت.
- ماذا تريد منها؟
- لا تخشى شيئاً. اطمئن، لكل مشكلة حل.
- وهل تستطيع أن تحل مشكلتي؟
- إن شاء الله. المشكلة في اللون الأصفر.
- نعم؟؟ ماذا قلت؟؟ اللون الأصفر؟؟ ما دخل اللون في المعاملة؟؟
- هل تريد أن تنهي معاملتك أم لا؟؟
- بالتأكيد، أرغب بذلك بشدة. خذ المعاملة، فالغريق يتعلق بقشة.
- سامحك الله، لست قشة، ولكني أرغب بمساعدتك لله، فأنت كما يبدو رجل محترم لا تستحق (البهدلة والشحططة).
تناول المراسل المعاملة، ونزع الملف الأصفر، واستل ملفاً أخضر جديداً من أحد الأدراج المقفلة، ورتب أوراق المعاملة داخله بدقة، ثم ناوله للرجل قائلاً:
- تغيّب نصف ساعة، ثم عد للرئيس، وسيوقع المعاملة، وتنتهي معاناتك.
- ولكن كيف، وقد طلب مني أن أراجع مكتب رقم 111.
- لا عليك، أفعل ما أقول لك ولن تندم.
- أمري لله، سأفعل ما طلبت، ولن أخسر شيئاً أكثر مما خسرت، ولكن ما علاقة اللون الأصفر بالمعاملة؟
- سأخبرك بعد أن تنهي معاملتك، حيث ستجدني في هذا الطابق، ولكن لا تخبر أحداً عن تغيير لون الملف.
بعد نصف ساعة تقريباً، خرج الرجل وهو لا يصدّق أن المعاملة قد وُقعت من قبل رئيس البلدية؛ بل لم يكلف نفسه تقليب أوراقها، فقد وقع في المكان المحدّد دون تردد أو سؤال، وإضافة إلى التوقيع قال له باسماً متلطفاً: مبروك.
بحث عن المراسل بلهفة، فوجده يقوم بعمل في أحد المكاتب، فانتظره حتى أكمل مهمته وخرج. أخبره بالسحر الذي عمل مفعوله، والمعجزة التي حدثت، وكيف أن الرئيس وقع المعاملة فوراً، طالباً منه أن يفي بوعده.
أخذه المراسل جانباً، ولما تأكد من خلوّ المكان من العيون المتلصصة، أخبره:
- هناك سر في اللون الأصفر.
- أي سر يا رجل؟؟ أفصح ولا تتعبني.
- اسمع، مكتب 111 هو من يحدّد لون ملف المعاملة، ولكل لون معنى.
- لكل لون معنى؟ كيف؟
- إذا دفع له المراجع ما يرضيه ويكفيه ورئيسه، وضع المعاملة في ملف أخضر، وإذا لم يدفع المراجع وضع المعاملة في ملف أصفر.
- آه ... فهمت... وهكذا يوقع الرئيس الملفات الخضراء، أما الملفات الصفراء فلا بواكي لها.
- هو كذلك، واللون هو كلمة السر بين الطرفين.
- مصيبة، هل وصل الفساد إلى هذا الحد؟
- وأكبر يا محترم، وخاصة في الملفات الحمراء!
- ملفات حمراء؟! ما قصتها هي الأخرى؟
- الملفات الحمراء تخص معاملات كبيرة تحتوي مخالفات قانونية، ولكن المبلغ يكون كبيراً بحيث يخفي كل عيب ويتجاوز كل مخالفة.
ضرب كفاً بكف، وخرج من مبنى البلدية وهو يتمتم ويكلم نفسه كمن به مس من الجنون: ملف أصفر... ملف أخضر... ملف أحمر... ولكن أين الملف الأسود؟
إقرأ أيضا لـ "موسى أبورياش"العدد 3313 - الأحد 02 أكتوبر 2011م الموافق 04 ذي القعدة 1432هـ