عرفه جمهور المثقفين والمشاهدين للبرامج الحوارية من خلال حضوره المكثف كلما تعلقت حلقات الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة القطرية بتونس زمن نظام الرئيس المخلوع. غير أني عرفته أول ما عرفته في طور المراهقة في المدرسة الثانوية أواخر الحقبة البورقيبية ناشطا محركا للقاعدة التلمذية وخاصة حين صار الصراع على أشده بين الإسلاميين واليساريين للسيطرة على القاعدة الطلابية، ثم جمعني به القدر ثانية في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس العاصمة حيث بدأ نجم أحد الأشخاص يسطع بعد تخرج ثلة من الناطقين الرسميين باسم الحركات الطلابية اليسارية فضلا عن إتمام عملية إجهاض الحركة الطلابية الإسلامية ووأد رموزها الجامعية في العام 1991 وما رافق ذلك من تشجيع للتيار الطلابي التجمعي (نسبة إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي حزب الرئيس المخلوع) على الظهور والسكوت عن التيار اليساري ليستعيد بريقه الذي خبا... هكذا خدمت الظروف السياسية أحد الأشخاص للبروز طالبا في قسم علم الاجتماع ومناضلا يدافع عن قضايا المستضعفين في البلاد ثم مارس التدريس كأستاذ للتربية المدنية دون أن يكف قلمه عن الكتابة النقدية في الصحافة اليومية والأسبوعية المكتوبة والمسموعة - المرئية، في حدود ما تسمح به حرية الإعلام في تونس أيام عهد الرئيس المخلوع.
وعموما يقترب هذا الإعلامي من صورة المثقف العضوي كما عرَّفه غرامشي المفكر الماركسي الإيطالي فالمثقف العضوي هو «المثقف المرتبط بطبقة معينة، حيث يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصادية، بهدف تحقيق قبول وإجماع الطبقات الأخرى، وذلك من خلال عملهم في مختلف الهيئات الثقافية والإعلامية كالمدارس والجامعات، وأجهزة النشر وغيرها. وفي هذا كله تبرز وظيفة العضويين باعتبارهم «أسمنتاً» يربط البنية الفوقية والتحتية للمجتمع».
وإذا بالغنا في وصفه بالمثقف العضوي فإنه على الأقل كان مثقفا فاعلا ناشطا بين الجماهير معبرا عن مشاغل عموم الطلاب وعامة المجتمع التونسي مما كان يعانيه من اضطهاد على جميع الأصعدة حين اشتدت قبضة نظام بن علي على الحكم في تونس.
لكن حصل لهذا المثقف اليساري - البارع في قولبة الخطاب وتصفيف الجمل والحاذق لفنون الجدل والحجاج بما أوتي من واسع فكر بفضل قراءاته المتنوعة - «تحوُّل مبارك» منذ 2005 حيث ارتبط حضوره التلفزيوني بالدفاع عن سياسة نظام الرئيس السابق واختياراته؛ صورة لم يصدقها من يعرفه من زملاء الجامعة في الساحة الحمراء بكلية العلوم الإنسانية ومنذ ذلك الحين صار هذا المثقف اليساري المتسيّس الذي تنبأ له كل من عرفه عن قرب بمستقبل سياسي واعد - على يسار السلطة لا عن يمينها أو في ذيلها - من بين الرموز الإعلامية للنظام المخلوع فقد كان ناطقا غير معلن لنظام بن علي، وقد جعلته الأقدار يظهر على قناة الجزيرة قبل يومين فقط من الإطاحة ببن علي، قائلا إن المخلوع «منح الديمقراطية والحرية لجميع التوانسة، وهم اليوم يمارسونها بكل شفافية في الشارع»، وتهجم على الثورة ودافع عن رؤية بن علي في خطابه الشهير الثاني الذي وصف فيه المحتجين بالإرهابيين والملثمين الذين تحرّكهم أطراف خارجية. لكن كثيرين احتجوا على اتخاذه محاور في المنابر الإعلامية، ذلك أنه لم يصرح بموقع رسمي له من السلطة بل وكأن حضوره الإعلامي يوهم بأنه مستقل لا علاقة له بنظام بن علي سوى أنه مقتنع به بوصفه الحل الأمثل لتونس آنذاك وهو ما دعا كثيرين إلى التساؤل: «ما هو موقع هذا الشخص من السلطة وما هي شرعية وفائدة التحاور معه على أنه المتحدث «غير الرسمي» باسم الحكومة التونسية أو باسم وكالة الاتصال الخارجي التي أوُكلت إليها مهمة تلميع صورة النظام التونسي والرّد على «الشكاوي الحقوقية» أو «المبادرات السياسية»، للمعارضة التونسية وشخصيات المجتمع المدني التونسي التي اختزلت في فرعها الحقوقي. وتعجّب آخرون من داخل تونس قائلين: «لماذا نقبل أصلا مبدأ التحاور مع هذا الشخص والخضوع لقانون لعبة حيكت من أجل الإجهاض على الحوار أصلا وتحويله إلى تهريج؟».
واستنكر الكثير حضوره بالقول: «لماذا نشرك هذا الشخص في حصص إعلامية نادرة قلما سنحت ونحوّلها، بمجرد «التحاور» معه، إلى مرتع لبوق السلطة الإعلامي ولا نستفيد من هذه المنابر لإجبار السلطة على تعيين «متحدث رسمي» يمثل السلطة ولا يتملص من تحمّل المسئولية؟ هل هذا أيضا تجلٍ لعجزنا حتى على اختيار المُحاور المناسب الذي يتمتع بتمثيل رسمي يتحمل معه كل التصريحات التي تُخوّن أهالينا في قفصة حينا وتتظاهر بالدفاع عن الشعب التونسي حينا آخر، والتي يطلقها هنا وهناك على شاشات عربية وأخرى «مُعرّبة» استهوتها مغالطات وأكاذيب «مُحيي اللغة الخشبة التونسية» و «محامي الشيطان الأول».
من خلال إطلالات هذا الشخص المذكور علينا في الإعلام الخارجي بدا جليا أن نظام بن علي أصبح مفلسا وليس لديه ما يقدمه على المدى البعيد والمتوسط. فتدخلاته ومن شابهه من إنتليجينسيا الحكومة التونسية آنذاك أصبحت تقتصر على دور المكذب والمبرر والنافي بل والمهرج... إلخ. لكن ليست هناك أطروحة كاملة أو لنقل منتوجا متكاملا كما كان عليه خطابه أوائل التسعينيات في الجامعة التونسية.
وأخيراً، وبعد الثورة وإثر التحقيق معه وإطلاق سراحه المشروط تحدث الشارع التونسي عن حوار تلفزي في برنامج «الصراحة راحة» في قناة تونسية خاصة، حلقة دار حول بثها جدل كبير وتوسّم بعضهم خيرا في ان يسمعوا حتى مجرد اعتذار من هذا المثقف على أكاذيبه التي أقر بأنها لم تصدر عنه عن قناعة وإنما هي صورة للسفسطائي أو لأبطال الجاحظ في البخلاء حين يكذبون كذبة ويصدقونها ثم يسعون إلى إقناع الناس بصدقها... لكن في هذا الخضم الملوث ضاع عنه البرهان فهوى بعد أن كاد يبني لنفسه صرحا... ها هو واحد من المثقفين اليساريين الذين بدأوا معرضين لكن سرعان ما أغراهم المال والمنصب والوصولية ليتخلى عن أيديولوجيته ويرتمي في أحضان السلطان دون برهان.
وليست هذه الظاهرة مقصورة على المثقفين اليساريين وإنما هي ظاهرة خطيرة تنخر جسد المثقفين السياسيين العرب. فهل يتوقف هذا الانجرار وراء هذا التيار الذي لم يسلم منه اليمين ولا اليسار
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 3307 - الإثنين 26 سبتمبر 2011م الموافق 28 شوال 1432هـ
رأي المثقفين قد مالوا إلى من عنده مال وجاه
وليست هذه الظاهرة مقصورة على المثقفين اليساريين وإنما هي ظاهرة خطيرة تنخر جسد المثقفين السياسيين العرب. فهل يتوقف هذا الانجرار وراء هذا التيار الذي لم يسلم منه اليمين ولا اليسار
من هو؟
كان الأفضل توضيح من المقصود بهذا المثقف اليساري حتى لا يظلم غيره من ورائه