بهدوء غير اعتيادي استسلم ولأول مرّة بعد صراع طويل مع المرض عبدالرحمن النعيمي المعروف باسمه الحركي «سعيد سيف»، الطائر الجميل وذو العينين الذكيتين والقلب الكبير، بعد أن ظل عصياً وثائراً ومنفياً.
ربما يكون قد يئس من ذلك الصراع العبثي مع الموت، أو شعر على رغم غيبوبته التي دامت أربع سنوات ونيف، أن قلبه حين سيتوقف عن الخفقان، فإن قلوب الملايين التي كان يخاطبها ويعمل من أجلها أخذت بالخفقان في انتفاضات شعبية من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه، من أجل الحرية والكرامة والعدالة التي كرّس حياته من أجلها، مناضلاً وكاتباً وإنساناً. عندها أغمض عينيه مطمئناً ونام نومته الأبدية.
حينما دُعيت لتكريم عبدالرحمن النعيمي في المنامة العام 2007 وكان قد مرت عدّة أسابيع على غيبوبته التي استمرت حتى رحيله قلت في بداية حديثي: لا أتصور أن يجتمع شمل مؤتمر أو فعالية فكرية أو ثقافية أو سياسية في البحرين، من دون أن يكون عبدالرحمن النعيمي حاضراً. لم يتخيّل أحد غيابه وسيظل مقعده شاغراً، وهو الذي شغل الجمع السياسي والفكري العربي من مغرب الوطن حتى مشرقه، ومن شماله حتى الخليج في جنوبه.
لعل هذا القدر الغاشم أو الذئب المفترس الذي يداهمنا يدرك بكل لؤم وتشفٍّ أن هذه الإصابة وهذا الاستهداف إنما هما بالصميم... يقول الشريف الرضي:
مـا أخـطـأتـك النائباتُ
إذا أصـابـت من تحبُّ
ويقول الجواهري:
يظلّ المرءُ مهما أدركتهُ
يدُ الأيام طوع يد المصيبُ
كلامي على الراحل عبدالرحمن النعيمي هو كلام في المعنى والدلالة، جعلته محطات أطلّ منها عليه.
المحطة الأولى: ظفار ـ عدن
التقيتُ به في عدن في مارس/ آذار العام 1974 وكنتُ مشاركاً في مؤتمر «ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي»، وكان هو عائداً لتوّه من ظفار. عرّفني عليه الصديق المشترك شايع محسن (القيادي في الحزب الاشتراكي اليمني) وقدّمه لي قائلاً: «أنا على ثقة بأنك ستحبّه، أتمنى عليك أن تصغي إليه، ولاسيما بعض تفاصيل ثورة ظفار ومؤتمر الجبهة وإعلامها».
تأملت هيئته طويلاً، وكأنه أدرك ما في نفسي، فسارع ليقول لي: «إن لبس الفوطة (الإزار) (الوزرة باللهجة العراقية) مريح جداً، وخصوصاً في الصيف!»... وبابتسامة عذبة ومودّة صادقة وعناق حار بدأنا صداقة مديدة طالت ثلاثة عقود ونصف عقد من الزمان. طلبت منه أن يعرّفني على سلطان أحمد عمر (أمين عام حزب الطليعة الديمقراطية)لأنني كنت أحمل له رسالة من زميلي محمد أحمد زيدان (القنصل في السفارة اليمنية في روما سابقاً)، وفعل ذلك بكل ممنونية وارتياح.
مساء ذلك اليوم أو اليوم الذي تلاه دعانا الرئيس سالمين على العشاء وحضر كاجمن الألماني وفلاديمير السوفياتي وفتحي الفضل وأبوسعيد حسن السودانيان، كما حضر عبدالرحمن النعيمي وآخرون. يومها همس بأذني بعد اللقاء بعبدالفتاح إسماعيل: إنها تجربة متميّزة!
المحطة الثانية: دمشق ـ وحركة التحرر
اختط الشيب شعر عبدالرحمن النعيمي، الذي ظل اسمه غريباً علينا وعليه أيضاً، فحتى بعد عودته إلى البحرين كان اسم سعيد سيف أقرب إلينا وإليه وربما أكثر ألفة، أو لعل هذا الأمر يعود إلى شيء من النوستالجيا «الحنين إلى الماضي»، إلا أننا شيئاً فشيئاً اعتدنا على الاسم الجديد «عبدالرحمن» وسرعان ما أحببناه. في مكتبه الصغير مقابل فندق أميّة في الشام الحبيبة، كان يجمع وينظم ويستضيف ويحتفظ بالمحاضر ويوّجه الرسائل والدعوات ويقدّم لنا أقداح الشاي وفناجين القهوة. هو فلسطيني وعراقي، هو لبناني وسوري، هو مصري وسوداني، هو مغاربي ويمني، هو خليجي. هو كل ذلك في الآن ذاته.
المحطة الثالثة: القرار 3379 وفلسطين
كانت تلك محطة مهمة في حياتنا وعلاقاتنا. فقد اجتمعنا على هامش مؤتمر أقامه اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، حيث عمدنا بناء على مقترح للصديق المفكر السوري جورج جبور وكاتب السطور إلى تأسيس منظمة باسم «اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379» التي تحوّلت فيما بعد إلى «اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية». وكان عبدالرحمن النعيمي وناجي علوش وإنعام رعد وعبدالفتاح يونس وسعدالله مزرعاني وصابر محيي الدين وعبدالهادي النشاش أعضاء مؤسسين فيها وأصبح جبور رئيسها وكاتب السطور أمينها العام من العام 1986 - 1989.
المحطة الرابعة: طرابلس
كنا في طرابلس نحضر ندوة عن الأزمة في حركة التحرر الوطني العام 1985 بمشاركة التيارين القومي العربي واليساري الماركسي والشيوعي، شارك فيها جورج حاوي وجورج البطل وعبدالله العياشي وأديب ديمتري وعمر علي وعربي عواد وتيسير قبعة وعوني صادق وإنعام رعد ومحمد فائق وكامل زهيري وعصمت سيف الدولة وعمر الحامدي وآخرون، وحضر بعض جلساتها الرائد عبدالسلام جلود. حينها تمّ إبلاغنا برغبة الأخ «القائد» كما يلقبونه - المقصود معمر القذافي - باستقبالنا. طال انتظارنا نحو ساعة محشورين في قاعة مكتظة ومزدحمة وقليلة التهوية في صيف تموزي حار، قررنا يومها عبدالرحمن وأنا مغادرة القاعة حيث كدنا أن نختنق... مشينا نحو ثلاث ساعات متواصلة حتى وصلنا إلى فندق «باب البحر» منهكين. وعندما عاد الزملاء أبلغونا «أن الأخ القائد لم يحضر... بل خاطبهم عبر التلفزيون... وهم استمعوا إليه». وقتها هتف عبدالرحمن معلقاً: فزنا وربّ الكعبة!
المحطة الخامسة: المنبر
في ثمانينيات القرن الماضي بدأت السبل تتباعد بيننا وبين القيادة الرسمية للحزب الشيوعي بسبب مواقف فكرية وسياسية وتنظيمية اتخذناها، وخصوصاً فيما يتعلق بالحرب العراقية - الإيرانية، ولاسيما بعد انتقالها إلى الأراضي العراقية. وشعرنا بأن إعلان موقف واضح أصبح واجباً والسكوت يعني تواطؤاً، فأصدرنا عدداً من المذكرات ووقعنا احتجاجات وأجرينا اتصالات وأصدرنا صحيفة باسم «المنبر». كان لي شرف تحريرها والإشراف عليها في بيروت. وقف النعيمي معنا، دعمنا، شاركنا همومنا، لكنه لم يتدخل بالتفاصيل والخصوصيات. مرّة دعانا إلى اجتماع لكوادر الجبهة الشعبية في البحرين، التي كان أمينها العام وكانوا قد جاءوا من «الداخل» حضرنا: محمود شكاره وعلي شوكت وأنا. وكان الاجتماع في بيته. ناقشونا وأجبنا على أسئلتهم وما كنا نطرحه بخصوص تجديد الفكر الاشتراكي وتطوير الماركسية وقضايا الحرب والسلام والثورة والتحالفات السابقة واللاحقة، وتقويم أخطائنا، وأساليب الكفاح والبيروقراطية والتسلطية الحزبية، التي وصلت بفعل المنفى إلى حد خطير والبيروستريكا والخطر الصهيوني الجديد! لم يكترث يوماً بأي تهديد سواءً من متنفذين أو من غيرهم، فقد كان اعتقاده ثابتاً وموقفه مبدئياً.
المحطة السادسة: الحرب والاعتقال
لم يتخلّ عبدالرحمن عن مبدئيته... بل ظل متمسكاً بها وفياً للقيم والأخلاق إلى أبعد الحدود. وعندما احتلت القوات العراقية الكويت، رفض النعيمي الغزو والضم، لكنه في الوقت نفسه رفض الحرب على العراق ودعا في تصريح أصدره إلى انسحاب القوات الأميركية من الخليج والجزيرة العربية، كما حذر الدول العربية إلى عدم الانخراط فيها. إلا أنه ولدى وصوله إلى مطار دمشق اعتقل احترازياً، وظل في المعتقل بضعة أشهر حتى انتهت الحرب. وبدأت كارثة جديدة، فقد تحررت الكويت وانسحبت القوات العراقية منها، لكن تمّ تدمير العراق. وبحكم حسّه السياسي كان يدرك من وقف معه في تلك المحنة ومن دافع عنه على مستوى العلاقات السياسية مع الإخوة المسئولين السوريين أو عبر المنظمات الدولية الحقوقية وخصوصاً منظمة العفو الدولية. قال لي على الهاتف وأنا أهنئه على استعادة حريته: إشكرْ جميع الأخوات والإخوة الذين وقفوا معنا. وسألته لاحقاً فيما إذا كان قد تعرّض للتعذيب؟ أجابني بالنفي، وأردف قائلاً: لقد تعاملوا معي باحترام. ثم أضاف: أنا لست نادماً لموقفي على رغم أنني تعرّضت للإساءة وحجب الحرية
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 3304 - الجمعة 23 سبتمبر 2011م الموافق 25 شوال 1432هـ
الله يرحمة
واليوم لو معنا لغيب في غياهب السجون لأنة لن ولن يرضى بواقع مر كالذي نعيش ......