يحرص كثير من الكتاب والأكاديميين على إجراء المقارنات بين القادة والزعماء، وقد جرت مقارنة عبدالناصر في إبان ثورته بكمال أتاتورك وكتبَ البعض دراسات أكاديمية في هذا الصدد. واليوم يعود عبدالناصر للصدارة مجدداً من ثلاث زوايا، أولها فكره الذي يتميز بالاستمرارية، ولهذا فإن شباب ثورة 25 يناير رفعوا صوره ورددوا بعض أفكاره وشعاراته؛ والثانية في توديع نجله خالد؛ والثالثة في أزمة العالم العربي وخصوصاً مصر فيما يتعلق بقضية فلسطين وبالتعامل مع القوى الدولية. ولهذا يقارن البعض الآن بين عبدالناصر وبين رجب طيب أردوغان. وأعتقد أنه من السابق لأوانه إجراء مثل هذه المقارنة بموضوعية علمية، وإن كان من الضروري الكتابة في الموضوع لمواكبة الأحداث المهمة على الساحة العربية والدولية.
لقد استطاع رجب طيب أردوغان أن يأسر قلوب الكثيرين لما يتمتع به من كاريزما، ولما حققه من إنجازات في الاهتمام باقتصاد بلاده وتطويره ورفع شأنها. وبالطبع فإن لكل زعيم صفاته وخصائصه وظروفه، وأيضاً ظروف بلاده وموقعها وتاريخها وعلاقاتها ومطامع الآخرين فيها والتحديات التي تواجهها. ومن ثم سوف يظل جمال عبدالناصر علامة مضيئة متميزة في تاريخ العرب بل والعالم، وربما سوف يظل أردوغان علامة متميزة أيضاً لما يقوم به، ولكن سيظل كل واحد منهما نجماً متألقاً في سماء قومه وبمنطق عصره ومشاكله وطموحاته.
ونركز هنا على أمرين أولهما الترحيب بما يتمتع به أردوغان من كاريزما وبما يقوم به من لفتات للقضايا العربية... ونقول لفتات لأنها لم تتحول بعد لسياسات حقيقية واقعية يترتب عليها ثمن ملموس يتحمله صاحبه، ونتائج ملموسة يحققها كما حدث مع عبدالناصر. وربما لأن الوقت مازال إمام أردوغان لتطوير وتفعيل الكثير من الشعارات التي يطرحها ليتبين مدى ما تحققه لمصلحة القضايا العربية ولمصلحة الدور التركي في الإطار العربي والإطار الإسلامي.
والثانية الإشارة بنوع من التقييم السريع لإنجازات عبدالناصر وثورة 23 يوليو في ضوء مرور ستين عاماً على قيامها. فلقد قامت ثورة 1952، التي أطلق عليها حركة الجيش ثم تحولت التسمية شكلاً وعملاً إلى ثورة بعد العام 1954، حيث صدر بعد شهور قلائل قانون الإصلاح الزراعي، ثم بعد ذلك تحوّلت مصر إلى جمهورية، وتم تأميم قناة السويس وتمصير البنوك والشركات وقيام الوحدة المصرية السورية، ثم صدور القوانين الاشتراكية ما أخاف النظم المحافظة والقوى الأجنبية التي تدخلت بالتآمر ضد الثورة واتجاهاتها السياسية الداخلية والعربية والدولية.
ولست في معرض الحديث عن ثورة 1952 التي ارتبطت باسم قائدها جمال عبدالناصر والذي تحول إلى زعيم مصري وعربي ودولي، حتى أنه عند وفاته بعد عمر قصير، تجاوز الخمسين عاماً بقليل، قامت الولايات المتحدة بإلغاء مناوراتها العسكرية في البحر الأبيض المتوسط بل وشارك وفد أميركي في الجنازة المهيبة التي أقيمت لوداعه، رغم أنه كان يعدّ من أشد أعداء السياسة الأميركية ولكنه كان زعيماً وطنياً له إنجازاته الضخمة كما له أخطاؤه الضخمة أيضاً، ومنها عدم اعتماده الحقيقي على الجماهير والحزب وعدم تنفيذه لمبادئ الثورة الستة والتي من بينها: إقامة ديمقراطية سليمة والقضاء على الفساد وإقامة جيش قوي رغم محاولاته العديدة بالنسبة للبندين الأخيرين.
والفساد في عهد عبدالناصر لا يقارن بما حدث في عهد السادات أو حسني مبارك الذي أعاد عقارب الساعة للوراء من خلال سياسات من شأنها إعادة مصر للنظام الملكي الوراثي وسيطرة رأس المال على الحكم، وإضعاف دور مصر القومي والدولي، بل وإضعاف قوة مصر العسكرية والتكنولوجية.
عبدالناصر كان زعيماً قاد ثورة حقيقية لها أخطاؤها كما لها مزاياها، وكان شخصية كارزماتية له محبّوه والمعجبون، وله أعداؤه وخصومه، وبقيت سياساته موضع دراسات علمية وأكاديمية ليس في جامعات مصر والعالم العربي بل في جامعات أوروبا وأميركا وآسيا. قاد حركة التحرر الوطني العالمي وبادر بفكرة عدم الانحياز. إنه زعيم له رؤية وفلسفة واستراتيجية قد يختلف البعض معها وقد يؤيدها، وفي الأحوال كافة لابد أن يحترمه إذا كان منصفاً.
ولهذا كانت جنازته مهيبة وكانت الجماهير المصرية والعربية تشعر عند وفاته بفقدان أعز قادتها وزعمائها كما لو كان أباً لكل مواطن عربي. وعادت الجماهير بعد عدة سنوات من وفاته، لتردد بعض أطروحاته مثل «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، والعدالة الاجتماعية وحقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
احترم عبدالناصر عظمة من سبقوه كما تجلى ذلك في حديثه عن ثورة مصر 1919 في ميثاق العمل الوطني، وكما تجلى في سماحه بدفن جثمان الملك فاروق في مصر. بل وفي التعامل معه بالاحترام الواجب عند تنازله عن السلطة ومغادرته مصر، فتم تأدية التحية العسكرية له وتوديعه رسمياً. بالطبع انتقد النظام السابق لأنه قاد ثورة ضد ذلك النظام ولكنه نقد لم يصل لمستوى متدنٍ كما يحدث من بعض قادة الثورات للأنظمة السابقة عليهم. ولعل ذلك مرجع إعجاب شباب جيل السبعينيات والثمانينيات بعبدالناصر الذي لم يعيشوا مرحلته، وكذلك إعجاب شباب ثورة 25 يناير 2011 به وإحساسهم بأنه كان صادقاً. وقد تجلى هذا الإحساس في توديعه لنجله خالد جمال عبدالناصر ورفع بعضهم شعار يقول «يا خالد أبلغ جمال أن الثورة باقية مع الأجيال». ولا عجب أن تعيش أسرة جمال عبدالناصر من زوجته وأولاده وبناته موضع احترام من الشعب المصري بل والعربي وبعض الدول النامية مثل الهند وغيرها عبر المراحل اللاحقة. فزوجته لم تتدخل في السياسة، وأبناؤه حتى بعد وفاته لم يشتركوا في السياسة ولم يعتبروا مصر بقرة حلوباً لهم، بل اعتبروا أنهم مواطنون عاديون عاشوا في المجال الأكاديمي أو الوظائف أو الأعمال كمواطنين وليسوا كورثة لزعيم قاد ثورة وكان أثناء حياته ملء السمع والبصر.
وكلما مرّ الزمن على وفاة عبدالناصر وثورة 1952 يزداد إعجاب الأجيال بها وتقديرهم لإنجازاتها، خصوصاً عندما يقارنون ما حدث عبر ثلاثين عاماً من حكم الرئيس السابق حسني مبارك الذي باع أثناء حكمه القطاع العام الذي كان عماد الاقتصاد المصري وأعاد سيطرة رأس المال على الحكم وخطط مع النخبة الحاكمة في عهده لنقل مصر إلى النظام الملكي عبر آلية قانونية وسياسية فرضت بالقمع والخديعة، ولكن ثورة 25 يناير أسقطت ذلك كله.
عبدالناصر عاش زعيماً ومات زعيماً، ومازالت زعامته تعيش في وضعها وظروفها التاريخية مثل الكثير من الزعامات في العالم. وأسرته عاشت كأسرةٍ عاديةٍ تتمتع بالمواطنة المصرية ولم تحلم بالزعامة، فاحترمها كل من له فكر وعقل، وهكذا الزعامات والثورات.
في كتابي عن «ثورة 25 يناير إطلالة إستراتيجية»، أوضحت أن الفارق بين الثورتين هو وجود القيادة الموحدة والكوادر السياسية والحزبية، ولهذا سرعان ما بدأت ثورة 23 يوليو 1952 في تحقيق برنامجها، في حين ثورة 25 يناير2011 مازالت في بدايتها تعبر عن طموحات شعب مصر عبر المليونيات في أيام الجمع، وتحارب محاولة السيطرة عليها من القوى العديدة المتصارعة داخلياً أو خارجياً بين صفوفها أو من خارج تلك الصفوف.
حمى الله مصر من حدوث نكسة لثورة 25 يناير، كما حدثت نكسة 1967 ونكسة الانفصال لثورة يوليو 1952 وإن كنت أعتقد أن شعب مصر وقواه الثورية العام 2011 سيظلون على يقظة لمقاومة كل من يحاول الانقلاب على ثورته التي هي ثورة شعب قادها جيل الشباب وحمتها القوات المسلحة المصرية صاحبة الانتماء الوطني الأصيل
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3303 - الخميس 22 سبتمبر 2011م الموافق 24 شوال 1432هـ