لاشك أنَّ رواية «عندما تشيخ الذئاب» للأديب المبدع «جمال ناجي» رواية ناجحة، رائعة بكل المقاييس، وهذا ما أهّلها لتحجز بجدارة مكاناً لها في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2009.
تعمل الرواية على التفكيك على مستوى الفرد والمجتمع، وتعري الجميع تحت عدسة مكبرة، وتكشف المستور بكل عواره وسوأته، وتظهر من المحبطات قدراً كبيراً لا أثر أمامها لأية إيجابيات أو حسنات، وإن كان الكشف بحد ذاته يشكل حالة متقدمة وضرورية لأية عملية إصلاح ومعالجة للوضع القائم، فالكشف فضح، والفضح يعني أن تتسع حدقة العين على مداها؛ لتدرك الواقع على حقيقته دون زيف أو خداع، أو تعلق بسراب القشرة الهشة التي تخفي داخلها قاعاً معتماً فاسداً في الغالب.
تتلاطم شخصيات الرواية في صراع المصالح بشكل يشي بعبثية القيم والمبادئ، وأن لا ثبات لأي شيء في وجه المصالح والأطماع، بل الأسوأ أن تستغل هذه القيم والمبادئ ببشاعة لخدمة الأطماع وتبرير الشرور.
استخدم جمال ناجي تقنية تعدد الأصوات، وهذا بحد ذاته إبداع وخاصة أن استخدام هذه التقنية في الرواية كان مبهراً وموفقاً جداً، وكانت قمة الإبداع ألا يكون لبطل الرواية «عزمي الوجيه» أي دور صوتي مباشر، وإن كانت جميع الأصوات تتحدث عنه، فهو مدار الرواية وحجر الرحى وبطلها الأهم، فكلها مشغولة به، مهتمة بتفاصيل حياته، تلاحقه بتأويلاتها وأحاديثها، وهو لا يهتم بأحد إلا بنفسه ومصالحه وتحقيق ذاته، وفي هذا تكريس للنجم الأوحد، والبطل الأوحد، والزعيم الأوحد، في إشارة سياسية واضحة إلى نظم الحكم التي تتمحور حول شخصية الزعيم وما يوحي به وما يشير إليه وإلهاماته وتجلياته وفتوحاته.
قضية أخرى تشير إليها الرواية، وهي قصور ذراع الأمن تجاه هؤلاء الأشخاص النافذين، وعجزها عن إلقاء القبض عليهم، إلا بعد مطاردات وملاحقات طويلة، وأسبغت الرواية عليهم قدرات غير عادية في الاختفاء والتخفي والتفلت من قبضة رجال الأمن، في إشارة إلى قوة علاقاتهم وتشابكها مع ذوي الشأن والنفوذ الذين يسبغون عليهم الحماية، مما يصعب مهمة القبض عليهم وإن بِوَهْم الخوف من هؤلاء المتنفذين، أو حساسية الاقتراب من منطقة هيمنتهم.
الشيخ عبدالحميد الجنزير نموذج لاستغلال الدين في تحقيق الأطماع والمصالح، وهذه للأسف ظاهرة تتسع، وإن كانت تأخذ أشكالاً أخرى ليس بالضرورة أن تكون كالشيخ الجنزير، فاستغلال التدين ومظهر التدين في التدليس على الناس واستغلالهم يعاني منه المجتمع كل يوم، ومع ذلك ينزه الناس الدين عن هذه التجاوزات والمظاهر البشعة الكالحة التي تحاول تشويه صورة الدين، ولكنها والحمد لله لم تفلح ولن تفلح بإذن الله.
المطبخ السياسي أو الصالون السياسي في مزرعة الشيخ الجنزير، وتأثيره في الأحداث والخيارات السياسية في مجال التوزير أو تقلد المناصب المهمة، يلقي الضوء على حقيقة معاشة وملموسة، حيث لا ينكر أحد الدور المؤثر للقوى السياسية التي تتمحور غالباً حول شخصية مركزية تحركها وتتحكم فيها، وتصنع داخلها النجوم ورجال الحكم والسياسة وصناع القرار، وغالباً تتركز هذه الصالونات حول مصالح اقتصادية وتجارية، وتستقطب حولها رجال الفكر والأدب والصحافة والإعلام لإتمام المهمة وإخراجها بشكل مسرحي مقبول يقنع المشاهد الذي لا يفطن للعبة غالباً.
يشكل جبران حالة شائعة في تحول أصحاب المبادئ والأفكار حسب مصالحهم، وتؤكد أن البعض يستطيع أن يغير أفكاره ومبادئه كما يغير ملابسه إن كانت مصالحه تتطلب ذلك. صحيح أن جبران لم يتنكر لأفكاره حسب زعمه وبقي يؤكد على ذلك، لكن الواقع يفضح هذا الزعم، ويثبت عكسه، وجبران لا يختلف عن الشيخ الجنزير فكلهما تظاهر بفكر معين، ولم يكن لفكرهما أثر حقيقي في أفعالهما، بل وظفا أفكارهما لخدمة مصالحهما الشخصية، أي أنهما استخدماه لباساً لتزيين أنفسهما وتسويقها وستر عوراتهما.
انتهت الرواية إلى تأكيد ثبات الشر وقوته وتجذره في المجتمع دون أي أمل يبدو في الأفق، وهنا تكمن نقطة المفارقة والخلاف مع الرواية بخاصة والأدب بعامة!
هل وظيفة الأدب أن ينقل الواقع كما هو بكل مثالبه ووحشيته وكدره؟ هل من وظيفة الأدب أن يتوقف عند هذا الحد من الفضح والكشف؟
إن الكشف مهم جداً، وتعرية المستور أمر في غاية الأهمية، وتفكيك العلاقات المتشابكة يخدم قضية المجتمع وأمنه وإصلاحه، ولكن التوقف عند هذا الحد أمر محبط للغاية، ويثير الفزع والخوف عند المتلقي، عندما لا يجد أية بادرة للخلاص أو الانعتاق من هذا الظلام الذي يعم كل شيء.
إن وظيفة الأدب أن يشخص الواقع بهدف معالجته، أن يقدم الواقع بتكثيف وتسليط الضوء على مشاكله وقضاياه بهدف إيجاد الحلول لكل مشاكله وقضاياه.
إن وظيفة الأدب أيضاً أن يقدم رؤى مستقبلية، وأملاً بالخلاص، ومفتاحاً للحل.
ما فعلته رواية «عندما تشيخ الذئاب» أنها عرّت الواقع، وصدمتنا، وزرعت الإحباط في قلوبنا ثم انتهت دون أي أمل بالخلاص أو الانفراج نحو مستقبل واعد.
يفترض بالأدب أن يكون مبشراً لا منفراً، مؤملاً لا محبطاً، لا نطلب من الأديب أن يقدم حلولاً سحرية، ويعالج كل مشاكلنا على اختلافها وتنوعها، ولكن لا أقل من طرف خيط، أو شعاع من نور، أو بارقة أمل تلوح من بعيد. إلا إذا كان جمال ناجي يهدف من وراء ذلك أن يستفزنا ويحفزنا للبحث عن حل، عن علاج، عن طاقة نور، عن بارقة أمل، عن مخرج من النفق. فقد قذف في أحضاننا كل هذا العفن، فإما أن نستسلم ونعض عليه بالنواجذ، أو نفزع إلى التخلص منه ومن مسبباته!
وأخيراً، فإن رواية «عندما تشيخ الذئاب» عمل أدبي يستحق القراءة والإشادة، ويحق لها أن تحجز لها مكانة بارزة في الأدب الروائي الأردني والعربي على حد سواء.
* صدرت رواية «عندما تشيخ الذئاب» العام 2008، ضمن مشروع التفرغ الابداعي لوزارة الثقافة الأردنية العام 2007، في 354 صفحة من القطع المتوسط
إقرأ أيضا لـ "موسى أبورياش"العدد 3300 - الإثنين 19 سبتمبر 2011م الموافق 21 شوال 1432هـ