في المجتمعات الشرقية عموماً، والعربية خصوصاً، تنتشر ظاهرة الاستبداد بمختلف ألوانه وتعابيره. ظاهرة نجدها متأصلة في سلوكيات قطاعات واسعة من الناس في هذه المجتمعات، سواء لدى الفرد المستبـِد أو الجماعات المستبدة، وكذلك لدى الجمهور القابل لهذا الاستبداد أما خنوعاً له أو قبولاً طوعياً به؛ باعتبار القبول بالطاعة وتأييد المستبد واجباً على الناس الخاضعين لهذا المستبد، تحت تبريرات وتنظيرات متعددة تؤدي إلى تأصيل ثقافة مجتمعية تمجد المستبدين، وبما يؤدي إلى تمجيد الاستبداد والخنوع طوعاً للظلم والقبول به، حتى لو وصل إلى درجات فاضحة من الظلم والاستغلال والهيمنة المطلقة.
نعطي الزعيم طوعاً وكالة مطلقة للتصرف نيابة عنا دون محاسبته عن أعمال وكالته؛ ذلك حتماً يؤدي إلى الاستبداد الذي نقبل به طوعاً.
إن القبول طوعاً بالاستبداد هو أكثر سوءاً من الاستبداد القهري، لأن الاستبداد القهري سيؤدي حتماً إلى ثورة الناس لمقاومة هذا الاستبداد، أما الاستبداد المقبول طوعاً فيكون جزءاً من ثقافة الشعوب المستبد بها؛ حيث نرى قطاعات واسعة منها تتحول إلى قطيع من العبيد خاضعة طوعاً للفرد المستبد، سواء كان رب عائلة أو زعيماً دينياً أو حزبياً أو حاكماً أو جماعة.
في مجتمعاتنا العربية التي يتأصل فيها القبول الطوعي بالاستبداد لدى قطاعات واسعة من الناس، نرى الصراع بدلاً من أن يكون بين الناس والمستبد، يتحول إلى صراع بين من يرفض الاستبداد وبين من يقبل به طوعاً، أي إلى صراع بين مكونات المجتمع، ما يطيل من أمد الاستبداد.
إن من أكبر المفارقات في المجتمعات العربية، أننا نجد حتى الدساتير العربية تؤبد استبداد الحاكم الفرد والحزب الحاكم، بعضها لا يحدد سناً للحاكم، قد يصل الحاكم إلى درجة الخرف والعجز الدائم بحكم المرض أو السن، ولا يوجد نص دستوري في دساتيرنا العربية يعالج مثل هذه الحالة. دساتير الدول المسماة بالجمهورية بعضها لا يضع حداً معيناً للرئاسة، بما يمكن الزعيم الأوحد من الترشح في انتخابات شكلية مزورة من الحكم مادام على قيد الحياة، وبعضها وإن حدد سنوات للرئاسة، فإنه بمجرد أن يحين موعد الدورة الانتخابية التي لا يحق فيها للرئيس الترشح مجدداً، حتى ينعقد المجلس النيابي الذي جاء بانتخابات مزورة، ليقوم بتعديل الدستور بما يتيح للزعيم الاستمرار للأبد. كما أن بعض الدساتير العربية تؤبد استبداد الحزب الحاكم، ولا تسمح لحزب أو فرد آخر بالحكم. لقد بلغ الحد بالحكام والأحزاب الحاكمة إضفاء صفات على أنفسها كصفات القداسة والتأليه.
لو كانت الدساتير العربية والطبقات الحاكمة تسمح بالتغيير والتبادل السلمي للسلطة، هل كان لثورات الشعوب العربية التي قامت أن تقدم آلاف الشهداء والجرحى والمشوهين والمعتقلين؟ إن الطريق المسدود والإصرار على استمرار الاستبداد وسياسات القهر هو الذي حدا بالشعوب العربية للثورة سعياً إلى التحرر والانعتاق.
ينتهي استبداد الحاكم الأب بوفاته، وتقوم سلطة تشريعية جاءت في انتخابات مزورة، بتعديل الدستور في سويعات لتمكين الابن، الذي نهل من أبيه ثقافة الاستبداد والقهر لشعبه، ليواصل مسيرة الظلم والقهر والاستبداد لشعبه.
إلى ماذا أدى استبداد صدام بالعراق وشعبه العظيم؟ إلى ماذا أدى استبداد حكومة الأسد الأب والابن بسورية وشعبها؟ إلى ماذا أدى استبداد الطاغية معمر القذافي بليبيا وشعبها؟ إلى ماذا أدى استبداد الطاغية حسني مبارك بمصر المحروسة وشعبها الصبور؟ ذلك يؤكد أن الاستبداد متأصلٌ في منطقتنا العربية.
لا يمكن إلصاق صفة الاستبداد بشخص أو مجموعة ما بسبب الانتماء الطائفي، فالاستبداد موجود لدى جميع الطوائف والمذاهب، لكن لا يمكن تكييف الاستبداد طبقاً للمذهب والطائفة، فالنظام السوري نظام حزبي استبدادي ليس بسبب كونهم علويين حسبما يريد البعض الإيهام بذلك. صدام حسين وحزبه الشبيه بحزب البعث السوري، وكذلك حاكم مصر المخلوع وحزبه، كلهم مستبدون ليس بسبب كونهم من هذه الطائفة أو تلك. فالفرد أو المجموعة المستبدة لم يأتِ استبدادها بسبب الانتماء المذهبي.
إن الثقافة التي تتم بها تغذية الشعوب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية باسم الدين والمذهب، هي ثقافة تؤسس وتشرع لوجوب القبول بالاستبداد الطوعي من مجموع الناس للحاكم أو للزعامات الدينية. لقد ذهب البعض إلى عدم جواز الخروج على الحاكم الظالم الفاسق، بل وتحريم الخروج عليه وقالوا عن رأيهم إنه بدليل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وهو رأي نتيجة تفسير بشري ربما أنتجه فقهاء السلطان، ممن يقومون بتفصيل الجلباب بحسب المقاس المطلوب. ومثل هؤلاء موجودون في كل مكان وزمان. ونسألهم: ما قيمة صلاة وصوم وزكاة وحج الحاكم المستبد؟ من لا يصلي ولا يصوم يظلم نفسه ضمن علاقة ثنائية بينه وبين ربه، أما من يظلم الناس فهو يوقع استبداده على الآخر، وليس مطلوباً من الآخر أن يقبل بهذا الاستبداد تحت مظلة من التبريرات الدينية.
إن من أعظم وأجمل من عبر عن الذين يقبلون بالاستبداد طوعاً أحد رواد الحركة الإصلاحية العربية، عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الرائع «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وعلى رغم مرور قرن على كتابته، إلا أن القارئ يشعر بأنه يعبر عن واقع حال قطاعات واسعة من الأمة اليوم.
أختم بالقول الجميل المختصر والمركز للكواكبي في كتابه ذلك: «نحن ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا. ألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألفنا الانقياد ولو إلى المهالك. ألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث عن العموميات فضولاً، ومدَ النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفراً، وحب الوطن جنوناً».
هل لنا أن نتأمل ونتمعن فيما قاله الكواكبي؟
إقرأ أيضا لـ "شوقي العلوي"العدد 3300 - الإثنين 19 سبتمبر 2011م الموافق 21 شوال 1432هـ
ثورة ام فتنة
مقال جميل، والفرق بين فكر "انصر اخاك ظالماً او مظلوماً" والفكر الثوري هو الاجابة على السؤال التالي: هل قتل الخليفة الثالث كان فتنة ام ثورة؟