أمضى رئيس الوزراء التركي أسبوعاً حماسيّاً حافلاً في عواصم الربيع أو الشتاء العربي، فقد صلّى في الأزهر الشريف وعرّج على تونس الخضراء وأمّ الجموع في الزيتونة وشارك ثوار ليبيا صلاتهم في ساحة الشهداء وسط طرابلس.
في القاهرة، جهز آلاف المصريين أنفسهم لاستقبال أردوغان على طرفي شارع المطار في صورة لا تتكرر بسهولة لزعيمٍ آخر، أطفالهم يحملون صوره، ونساؤهم يستقبلنه بالتغاريد، والمنظر ذاته تكرر في كل البقاع الأخرى التي حلّ فيها أردوغان، لكن شعبيته الطاغية في مختلف أرجاء هذه الأمة تدفع إلى السؤال عما اذا كان أردوغان يحث الخطى لخلافة القائد العربي جمال عبدالناصر.
إنني واثق بأن كثيرين من العرب لن يترددوا في أن يزوّجوا بناتهم لرجب طيب أردوغان، وهو أيضاً يعد فارس الأحلام بالنسبة إلى الكثير من أبناء هذه الأمة التي تغزل في أدبها وتاريخها وتراثها، بل لامس جروحها عن قرب، وشاطر شبابها أحلامهم وشططهم على الشقاء في أوطانهم.
كثيرة هي أوجه التشابه، وكثيرة هي صور الاختلاف بين أردوغان العثماني، وعبدالناصر العربي، لكنهما يشتركان في أمر جوهري وهو الدخول ومن دون إذن مسبق إلى قلوب الملايين؛ فشباب العرب يرون اليوم في أردوغان ما رآه آباؤهم أو أجدادهم في عبدالناصر، ذلك الأسمر ذي القامة العالية.
الطيب أردوغان (كما يحلو للكثير من العرب تسميته) أصبح ظاهرة من الكاريزما والزعامة من الصعب نسيانها في هذه المنطقة لأمدٍ غير قصير، فقد استطاع أن يبدد الهوة التاريخية بين العرب والأتراك الناتجة عن مخلفات الفترة العثمانية الغابرة.
من ينظر إلى تلك الحفاوة الاستثنائية التي نالها أردوغان في كل عواصم المنطقة يدرك أنه يعيد إلى الأذهان تلك الشعبية الطاغية التي حظي بها عبدالناصر، وأصبح الشباب ينتظرون خطابات أردوغان بمزيج من الأمل والحسرة. إنهم يقتبسون منه شعاع الأمل من قائدٍ شجاعٍ واعدٍ مستنير، ويندبون حال بلدانهم التي خيّم فيها البؤس لآجال عتيدة من الزمن. أردوغان لا يملك خلطة سحرية ألهبت الجماهير وأججت الحب في قلوبهم، ولكن سلاحه الحقيقة...الحقيقة فقط التي يصعب على البعض مجرد الإصغاء إليها فضلاً عن حكمة اتباعها.
ومن باب الحقيقة لا المجاز يثبت الواقع أن «العثمانيين الجدد» استطاعوا أن يعيدوا مجد أسلافهم بل تفوقوا عليهم، فبعد قرون من الجفاء بين تركيا والعرب باتت العلاقة اليوم وطيدة أكثر منها في أي وقتٍ آخر.
من يقرأ تاريخ أردوغان، سيعرف أن الصدق والكفاح والإصرار صفات اقترنت به مذ كان طفلاً وفتى يافعاً وبائعاً للخبز على أرصفة أسطنبول. وعبدالناصر بدأ حياته في أسرة تمتهن الفلاحة ومن ثم عاملاً في البريد.
صحيحٌ أن أردوغان لم يأتِ إلى سدة الحكم بثورة شعبية ولا انقلابٍ كعبدالناصر، وإنّما جاء بظرفٍ تاريخي قلب معادلات السياسة واستطاع بجدارةٍ أن يلتقط اللحظة التاريخية بفرصها وتعقيداتها.
وكلا الزعيمين عايشا ظروفاً تاريخية استثنائية على رغم اختلاف حقبتهما الزمنية، وكما أن عبد الناصر كان رمزاً للكرامة العربية ضد استبداد الاستعمار وأكبر مساند للثورات في الأقطار العربية وعدد من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؛ فها هو أردوغان اليوم خير ظهيرٍ للثورات في عواصم العرب وأكبر محامٍ عن روح المقاومة. يا ترى من يجرؤ اليوم على طرد السفير الإسرائيلي من أراضيه وتجميد جميع الاتفاقيات السياسية والعسكرية والاقتصادية مع الدولة العبرية، ودعم المقاومة في المحافل الدولية بلاهوادة؟
إلا أن مفارقة كبيرة لا بد من أخذها من الدرس التركي؛ ففي الوقت ذاته الذي تمر فيه العلاقة بين تركيا و»إسرائيل» في أصعب مراحلها على الإطلاق؛ ينجح أردوغان في بناء شراكة وثيقة مع المجتمع الدولي وقواه المؤثرة لكن على أساس الاحترام والمصالح المتبادلة. وإذا عرفنا نقطة التوازن في السياسة الخارجية التركية؛ فحينها سنفهم أشياء عديدة مهمة قد يصعب تفسيرها بنحو سطحي، ومنها إعلان تركيا ترحيبها باستضافة الدرع الصاروخية التابعة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك إطلاق مبادرة شراكة عالمية جديدة بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية في مكافحة الإرهاب، والحصول على ضوء أخضر لمواجهة من تسميهم أنقرة «المتمردين الأكراد».
تركيا التي كانت حتى بضع سنوات تعمل جاهدة ومن دون طائل أن يمد لها الاتحاد الأوروبي لحافه؛ أصبحت الآن قوة في السياسة الدولية وأحد أبرز عواصم القرار في المنطقة، يتبارى الغربيون لنيل رضاها على أكثر من جبهة. وسيعي الأوروبيون بلا شك ما تمثله أنقرة من إضافة حقيقية لمد جسور التواصل بين الشرق والغرب.
الدرس البليغ الذي قدّمه أردوغان هو أن التوجه الفكري مهما يكن لن يشكل عائقاً أمام الانطلاق نحو العدالة والتنمية، وأن الاعتدال، وليس التزمُّت، هو الطريق الصحيح لكسب الرضا، ولم يبدد أردوغان أموال الأتراك في بناء ترسانات نووية أو عسكرية، فالمؤشرات الاقتصادية تدل بوضوح على الموقع المتقدم الذي تشغله تركيا على صعيد الاقتصاديات العالمية الأكثر تقدماً وتماسكاً.
الدولة المدنية في تركيا أتاحت المجال لبروز تجربة دينية متنورة، جمعت بين الأيديولوجيا والمصالح، وهي مزيج من حضارة الأستانة العريقة والروح الخلاقة للأمة التركية.
من غير مبالغة؛ فان الطيب أردوغان يسير نحو تلك النجومية والكاريزما منقطعة النظير التي نالها عبدالناصر في إعادة الاعتبار إلى هذه الأمة. وذلك ربما هو الجسر الجديد الذي يربط بين اسطنبول والإسكندرية، بل يضم في سككه كل عواصم المنطقة المتطلعة إلى شمس الحرية
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 3299 - الأحد 18 سبتمبر 2011م الموافق 20 شوال 1432هـ
مقال رائع
سعيدة لقراءة هذا المقال الذي يعيدنا جزء منه الى زمن العزة والكرامة الاسلامية
نتطلع لمقالاتك باستمرار
موفق اخي الكريم
مقارنة في غير محلها
شتان بين الثريا والثرى
أردكان لا هو عربي ولا هو يريد الاسلام
هو يحكم دولة علمانية وسياسته الخارجية لا يمكن إلا ان ترضى امريكا والغرب.
إذا هو لا يخدم العرب ولم يخدم العرب في شئ.
يأخذ مكان العميل مبارك آه إنما مكان
جمال عبد الناصر .. ذا مستحيل.
المزحة الاسرائيلة التركية هي نفس المزاح بين أخوين تحت ملاحظة الام أمريكا وهو مقصود ليأخذ اردكان مكانه المرسوم له من قبل الغرب وأمريكا.
اعتقد ان اردكان اصبح مكشوفا.
ويبقى عبدالناصر متربعا
لقد تخبط الرجل في محطات كثيرة, واذا اراد ان يكون ذلك فعلية اعادة لواء الاسكندرون الى اصحابها السوريون كما عمل ديجول للجزائر... اين عبدالناصر واين اردوغان, كان الغرب عدو الامة ونصير الصهاينة عدوا دائما لعبدالناصر واما اردوغان فعكس ذلك, لم ينطلق عبدالناصر لمناصرة قضايا الشعوب ودعمها الا بمنظورها الانساني مهما كلفه الثمن ولكن الاخ اردوغان فتهواه المذهبية كما تتحدث عنه الصحافة التركية
اهلا وسهلا بك وعودة حميدة
مقال جميل، كم اشتقنا الى تحليلاتك الرائعة ومقالاتك التي لا تخلو من النكت المفيدة،
أنت بحق صاحب عقل وفكر زاخر أيها المتربع على عرش قلوب قارئيك،،
سلمت ونتمنى المواصلة وعدم الانقطاع.
شرفت يابو محمد
عدت والعودة احمد