قبل ألف وسبعمائة عام بعث أحد شعراء العصر الجاهلي واسمه لقيط بن يعمر الايادي بقصيدة إلى قومه بني إياد مطلعها «يا دار عمرة من محتلها الجرعا». كان الشاعر لقيط مترجماً وكاتباً في ديوان ملك الفرس كسرى أنوشروان، ومن المطلعين على أسرار دولته. في هذه القصيدة التي تعتبر من غرر الشعر الجاهلي، ينذر لقيط قومه بني إياد بأن كسرى يعدُّ العدّة لغزوهم. ولم يكتفِ هذا الشاعر الجاهلي بإنذار قومه بل قدم النصح لهم لنبذ الفرقة التي تسبب الهلاك «يا لهف نفسي إن كانت أموركم...شتى وأحكم أمر الناس مجتمعاً». ولأنهم يتخبطون في سبات وغفلة، غير عابئين بالخطر المحدق بهم، وليسوا على استعداد لتقبل النصيحة وتغيير أسلوب تعاملهم مع الواقع والحقيقة، عمد لقيط إلى مخاطبتهم قائلاً «مالي أراكم نياماً في بُلَهْنِيَةٍ...وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا». إلا أن قبيلة إياد التي اختلفت على نفسها لم تسمع إلى نصائح لقيط فغزاهم كسرى وأوقع بهم دماراً.
إن الأمم التي لا تقرأ التاريخ تجنح لتكرار أخطاء الماضي. فعلى رغم مرور ألف وسبعمئة عام على هذه الواقعة إلا أن أمة العرب لم تستوعب التاريخ أو تستفيد من دروسه. فما هو السر الكامن وراء هذا المرض العضال يا ترى؟
إن الأسباب كثيرة ومتعددة ولكننا نكتفي هنا بسبب واحد ألا وهو الاستئثار وطريقة توجيه وإدارة المجتمع. فالشاعر لقيط خاطب السادة والأشراف أولاً لكونهم المسئولين عن أمور الناس ويمتلكون القدرة على اتخاذ الرأي وصنع القرار «أبلغ أياد وخلل في سراتهم - إني أرى الرأي إن لم أعصِ قد نصعا». ثم توجه بعد ذلك مخاطباً عموم القوم «يا قوم إن لكم من إرث أولكم - مجداً أحاذر أن يفنى وينقطعا». وهكذا تصبح مهمة إصلاح الأحوال مسئولية مشتركة بين الحاكم والمحكوم لا تتحقق إلا بالتوافق بين مكونات المجتمع وفقاً لمعادلة لا غالب ولا مغلوب بل انتصار للدولة والمجتمع.
وفي مملكة البحرين نمر بامتحان ليس باليسير. فالكثير منا يتساءل، ما العمل؟ وماذا بعد؟
في مقالنا السابق تحدثنا عن أهمية التأمل لتقييم الأداء ومراجعة أساليب العمل واستعراض الأرباح والخسائر لكي نختار على إثره التوجه الأسلم والأنفع لمعالجة قضايانا، إلا أننا مازلنا متمسكين بالأساليب ذاتها على رغم إدراكنا لحجم خسائرها، فبتنا نكرر أخطاء بني إياد في الاستكانة والتقليل من شأن أخطار الرهان على نموذج الماضي، وكأن ما يدور حولنا لا يعنينا بالشيء الكثير. إن الفرقة والانقسام لا يخدم المجتمع والدولة على حد سواء وخاصة في مجتمع عرف بالتسامح والتعايش والقبول بالحلول الوسط. فكثيراً ما اعتبر المجتمع البحريني نموذجاً منفتحاً يحتذى به في المنطقة. إلا أن الأحداث الأخيرة دفعت بكثير من المحللين من أمثال الكاتب الصحافي في صحيفة «الإندبندنت» باتريك كوكبيرن إلى الخروج باستنتاج مفاده «أن شعب البحرين الذي ينشد النهضة والإصلاح قد تحول إلى شعب منقسم على نفسه».
فقد سعينا لتقسيم الوطن عندما سمحنا، خلافاًَ للقانون، بإنشاء جمعيات سياسية على خلفية مذهبية، فاختطف العمل الوطني من قبل جمعيات سياسية متمذهبة غلبت مصالحها الشخصية والفئوية على مصالح الوطن حتى خرج علينا بعض من دعاة الفرقة ليؤلبوا أصحاب القرار على الانتقام حتى من الموتى وذلك بالدعوة لهدم قبورهم لكي لا تصبح مخازن للسلاح. إن تشجيع شيطان التطرف والاستئثار للخروج من قمقمه دليل على الإرباك في عملية صنع القرار الذي بدا واضحاً في تضارب القرارات وتعارضها. فتارة يتم توقيف أبرياء، ثم يطلق سراحهم بعد ارتكاب تجاوزات بحقهم، تلك التجاوزات التي تضمنها الخطاب الأخير لجلالة الملك. وتارة أخرى تطلق بعض المؤسسات الرسمية والخاصة العنان لدياسبورة وظيفية تستهدف الناس في أرزاقهم وذلك في عملية انتقامية جاهلة ومجنونة.
ثم تصدر التوجيهات العليا لإعادة الأبرياء إلى وظائفهم فيحجم البعض عن ذلك، بينما يستمر البعض الآخر في المشاكسة بزيادة جرعة الانتقام بوجبات جديدة من التسريحات التي تتم خارج القانون الذي لا تغيب إجراءاته عن بالهم. إن الإرباك وغياب التنسيق أصبح سمة واضحة لعملية صنع القرار عندما تحولنا من العمل بمفهوم الإدارة بالأهداف إلى العمل بمفهوم الإدارة بالوشاية والانتقام.
ولو أجرينا مقاربة مع نمط الإدارة السائدة في الماضي فهل بإمكاننا اعتبار هذا المنحى متقدماً على منهجية إدارتنا لشئوننا قبل أربعة عقود خلت؟
وعلى المستوى الخارجي نشير إلى مقال الكاتب في صحيفة الـ «واشنطون بوست» توماس ليبمان الذي استعرض حساسية الموقف في البحرين وانعكاساته على العلاقات الأميركية البحرينية فيما لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه. إن تحالفنا الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية مبني على مصالح اقتصادية وعسكرية لا تخصنا وحدنا فقط بل تتعلق بمجمل المصالح في المنطقة بأسرها. إن التعويل على هذا النوع من التحالف دونما اعتبار كافٍ لاستقرار الداخل لا يحرج الحليف الأميركي فقط بل يفتح الباب واسعاً للإضرار بالمصالح المشتركة التي قام من أجلها هذا التحالف، وخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التغيرات التي تحدث سريعاً في ميزان القوى والتحالفات على مستوى المنطقة والتي تعتبر العامل الرئيسي الذي تسعى إليه الدول لحماية مصالحها.
فهل تنقصنا أوجاع الخارج لحقن الداخل بأوجاع أشد وطأة، عوضاً عن كونها توفر مادة دسمة لسوق المقايضات الإقليمية والدولية؟ إن سوق السياسة، كما الاقتصاد، مليء بالمقايضات والتنازلات والتسويات التي إن لم يجيد أي طرف استخدامها، فإن حلقاتها لا تكتمل إلا على حسابه.
من جهة أخرى فقد أدركت الولايات المتحدة الأميركية بعد تجاربها المرة في أفغانستان والعراق أن القوة وحدها لا تحقق الأمن اللازم لحماية المصالح، ما لم يرتكز هذا الأمن على استقرار يتحقق بالحكم الصالح القائم على المساءلة والعدالة واحترام حقوق الإنسان. هذا هو الحال عليه في دول الغرب وهو كذلك في دول الشرق. فإذا كانت العدالة رديف للاستقرار يصبح الاستئثار رديف للفوضى وانعدام الأمن والتطرف المقوض للأوطان.
حقاً إن بلادنا تعيش في حال باتت حلقاتها تستحكم على مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهذه الحالة الخطيرة تلزم كل عاقل استدراك الأمر والنهوض من غفوة اللامبالات «فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا». وما لم يتم ذلك لن يصبح أمامنا في زمن هذه الفوضى غير الخلابة سوى الصبر، وتذكر قول الأمام الشافعي (رحمه الله) «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها، فرجت وكنت أظنها لا تفرج».
نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوحد صفوفنا ويأخذ بأيدينا جميعاً إلى طريق الصواب لما فيه خير البلاد والعباد، ويقوي من شوكة المخلصين الناصحين ويبعد عن وطننا شر المنافقين والأفاكين والمتطرفين بجميع تلاوينهم
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3299 - الأحد 18 سبتمبر 2011م الموافق 20 شوال 1432هـ
كثر الله من امثالك
دائما راع يا ابا علاء، مقالاتك لها طعمها الخاص كما اتمنى ان يصل صوتك واصوات جميع المخلصين لهذا الوطن الحبيب
صيف البحرين
ان الله لايغير باقوم حتى يغيروا ما بانفسهم اللهم اصلح الجميع
صح السانك
بو علاء لك مني كل التقدير والاحترام لهذا الاحساس الوطني النبيل بارك الله فيك
وطني امي
ادركت من مقالك القيم ان لك حبا عميقا متاصلا لتراب هذا الوطن المعطاه كتاباتك تشدني الى قراءتها وترقبها كل صباح الله يحفظ البحرين وشعبهاا