مرَّ أحدهم على مكبٍّ للقمامة المتكدِّسة، فشدَّه صوتٌ يخرج بحَشْرجَة في الصَّدر، وتردد في النفـَس، مِن وسط خرقة لا تظهر منها إلا فتحة بالكاد أن ترَى. اقتربَ صاحبنا منها ببطء ممزوج بنوع من الخوف، ليُفاجأ بجسَدِ حي طري مُسَجَّىً بين كومة من المخلفات التي تزكِم رائحتها الأنوف. كان جلده مُحمَرا من لهيب أشعة الشمس، ولسانه مُتدليا بين شفتيْن ناشفتيْن من شدة الجوع والعطش. كان الحادث بمثابة الصاعقة، لكن ذلك لم يمنعه من أن يبلِغ عما شاهده إلى الجهات الرسمية لكي تقوم بما يلزم.
انتهت القصة بالنسبة للمبلـِّغ، لكنها لم تنته بالنسبة لذلك الجسد. فقد أظهرت النتائج أن الذي كان في الخرقة المرمية رضيعة لا يتجاوز عمرها الأسبوعان، ولا يُعلم مَنْ وضعها هناك، لكن الذي ظهَر، هو أن امرأة قد حَبَلت بها خارج بيت الزوجية من أحد اللا رجال الطامحين في الفحولة الجوفاء المزيفة، فخشِيت من افتضاح أمرها، فآثرت أن تضحي بِمَن حَبَلت به قربانا لإخفاء سرِّها (حتى ولو كان ذلك القربان روحًا تتلظى في قماطها) في واحدة من أبشع صور الأنانية والظلم، والقتل مع سبق الإصرار والترصد إلى آخره من نعوت التأثيم والتجريم.
حادثة ليست من وَحي الخيال، وإنما هي واقعة كاملة البناء. بدأت مأساة هذه الرضيعة بتغيُّر النظرة الاجتماعية لها. بالتأكيد لم تكن تدرك ما يُقال عنها من هَمْس أو غمز؛ لأنها كانت في عمر لا يسعها التفكير إلا في الاعتقاد بأن مَنْ تراه من الناس حولها هم عائلتها. أحد الذكور هو والدها. وإحدى الإناث هي أمها، والباقي يتوزَّعون على أقرباء لها صعودًا وهبوطاً في درجات النسب المعروفة. فالإخوة والأخوات، والأخوال والخالات والأعمام والعمَّات وهلمّ جرى.
لكن الأمر تغيَّر عندما شبَّت تلك الصغيرة. فصارت المدرسة جزءًا أصيلاً من المجتمع الذي تعيش فيه. وعندما كانت تخرج من البيت لشراء الحلويات، كانت أعين الناس (وكلّ من يعرفون بأمرها) تتلصَّص عليها، وكأنها إحدى المتهمات في جناية كبرى من عيار «الإبادة الجماعية». لم تكن تعلم أن هذا المجتمع الذي هي تموج فيه ذهابًا وإيابًا، سيقدم لها أكبر هدية «شوكية» في حياتها، وهي عبارة عن وصفة اجتماعية «دونيَّة» لا ناقة لها بها ولا جمل.
تتذكر إلى الآن أن مجتمع المدرسة كان الأشد عليها من بين كل المجتمعات. فبين جيرانها، كانت الأعمار تتفاوت. وكان الكبير يلجم الصغير عن فعل وقول ما لا يُمكن فعله ولا قوله. بل وفي أحيان كثيرة، كانت مثل تلك الأمور الخاصة جدًا تتحوّل يومًا بعد آخر إلى أشبه ما يكون بـ «التابوات» التي يتعذر الحديث عنها باستمرار، إلا في المجالس الضيقة جدًا والتي لا يحضرها إلا الكبار الذين أدركوا بالدراية لا الرواية أمر تلك الفتاة منذ أن كانت تدار في الأحضان.
أما في مجتمع المدرسة فالموجودون هم كلهم أقرانٌ فقط، والأعمار بين التلميذات متقاربة لحد التطابق، والتنافس الأنثوي يفرض نفسه على الجميع. كما أنه مجتمع كثيرٌ منه هم من الأباعِد، الذي لا يقيمون حرمة للمجتمعات الخاصة؛ التي تكوِّنها بيوتات متلاصقة ومتجاورة في البناء والقلوب، وتضمها رقعة جغرافية صغيرة، لذا، فإنها كانت تستمع كثيرًا لمَنْ يهرف بما لا يعرف من التلميذات. وهو ما حصل بالفعل لها، حين سمِعت لأول مرَّة في حياتها عندما كانت في المرحلة الإعدادية من إحدى زميلاتها أنك «ابنة حرام»، وصفٌ فيه من الظلم الكثير.
بعد سماعها لذلك النعت الجارح، بدأ مشوارٌ معها جديد من المأساة. بدأت تشعر بأمر غريب لكنه جَلِي. فقد كانت تجد نفسها تحرق مراحلها العمريّة، ويكبر سِنها لكن حياتها متوقفة! كيف؟ بات المجتمع الذي تعيش فيه أشبه بالسجن الكبير. كل مشاريعها للزواج قد فشِلت، حيث ان رغبات الرجال تتكسَّر أمام منبت ولادتها رغم مَلكاتها في دماثة الخلق والحسن والجمال وصباحة الوجه، ويُسْر الحال، والمؤهل الأكاديمي، وكلّ ما يجعلها حسناء.
هنا، لا يُمكنني أن أقفِل هذا المقال بقفلة القصص القصيرة، وإنما سأسير به إلى تشخيص ما وراء تلك القصة وأضرابها. وهي عبارة عن إعادة تفسير لتلك التسميات التي توارثناها: لقِطة، ابنة حرام، خبيث الأصل. فهذه المسَمَّيات، كما يبدو هي أحكام مسبقة، لا تترك مجالاً لأولئك النفر في أن يقدموا أنفسهم إلى المجتمع بطريقة صحيحة. كما أنها أحكام نهائية، ليس لها صلح لا مع توبة نصُوح، ولا مع غيرها. والأكثر إيلامًا، هي أنها تعطي التصرفات الاجتماعية العنصرية تجاه هؤلاء شرعية في السلوك، حتى ولو كان تعنيفاً.
لنتساءل: ما هو الجرم الذي اقترفه هؤلاء «اللقطاء» أو غير النجباء كما يُسمَّون؟ كيف يظهر عليهم هذا التعنيف العنواني الشرعي والاجتماعي، والذي لا يترك لهم مجالاً لبناء حياة سليمة كغيرهم من الناس؟ وإذا كان مَنْ تذارروا من أصلابهم قد فعلوا فعلتهم واختفوا كالخفافيش، فهل يُعقل أن يتحمل هؤلاء الوزر، ليحملوه طيلة عمرهم؟ هذا الأمر غير صحيح، ولا يستقيم مع قوانين العدالة الاجتماعية أبدًا، ولا مع الفطرة الإنسانية، التي دعت إلى معاملة الجناة بعدل، فضلاً عن الأسوياء والأبرياء، الذين هم الأحق بالمعاملة الحسنة.
كل ما يتمناه المرء، هو أن يحصل هؤلاء على حقوق شرعية واجتماعية كغيرهم من الناس إن كانوا على الجادة والسلوك الحسن ومعاشرة الناس بالحسنى، دون الرجوع إلى أصلهم ومنبتهم ووصفه بالطاهر أو الفاسد، لأن ذلك في حقيقته تحريض على أن تتشكل ضدهم وجهات نظر، ورؤية اجتماعية غير عادلة. فمجتمعاتها ذات محاكاة قوية مع الحالة الدينية، وانعكاسها عليها واضح، وبالتالي، فإن الدين بتسامحه قادر على أن يقول في هؤلاء قولاً ليِّناً ومشجعاً، ليغيِّر من عادات الناس ونظرتهم لهؤلاء
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3297 - الجمعة 16 سبتمبر 2011م الموافق 18 شوال 1432هـ
...
التعامل مع هذه الفئة بدونية .. برأيي أمر قاسٍ بل و "حقير" و أبعد مايكون عن الإنصاف.. لا ذنب لهم فيما اقترفه آباؤهم!
لكن كجواب للسؤال "من منا قادر على أن يتزوج هذه الفتاه؟"
فصعبٌ جداً: "تحسسوا للعرق فإن العرق دسّاس" كما قال نبينا
معاملتهم معاملة إنسانية أمر واجب و مفروغ منه، لكن الزواج لست أدري،
ما وجهة نظر الشرع في ذلك ؟؟
...
نأمل أن تعامل هذه الفئه من الناس بإنسانية !
خضراء الدمن
اياكم وخضراء الدمن .. هل من تفسير لهذا القول؟؟؟؟
موضوع حساس
موضوع حساس جدا ويحتاج الى متابعة ونقاش
مَنْ مِنا قادرٌ على أن يتزوَّج هذه الفتاة؟!
الزواج قسمة ونصيب وكم فتاة من اقاصي الدنيا ترتبط بشخص من اعالي الدنيا وكم شخص احب فتاة ويعرف ماضيها وقبل الزواج بها
شارل مارتل وهو ملك مملكة الفرنجة لم يكن ابنا شرعيا، وجنرال الحرب النمساوي الشهير دون جوان هو ابن غير شرعي للأمبراطور شارل وليوناردو دا فينشي أشهر فنان إيطالي لم يكن ابنا شرعيا، ولورنس العرب لم يكن ابنا شرعيا، دون أن يمنع ذلك من بروز كل هؤلاء
إضافة أخرى
وقال متحدث باسم الكنيسة الإنجليزية انه يفضل ان يولد الأطفال عن طريق الزواج. لكنه اضاف انه في كثير من الحالات نرى ان الوالدين غير المتزوجين اللذين يعيشان معا وينجبان طفلا عادة يتزوجان بعد ذلك. وقال ان هناك شواهد كثيرة ان الوالدين يتزوجان بعد انجابهما طفلهما الأول. واضاف: بالرغم من ان هذا ليس وضعا مثاليا لكنه يحدث عادة.
في بريطانيا
فان نسبة المواليد في بريطانيا خارج عش الزوجية في ارتفاع، فقد ازدادت من 38.8 في المائة عام 1999 الى 39.5 في المائة عام .2000 وكمقارنة فإن المعدل الوطني للمواليد غير الشرعيين في انجلترا حاليا هو 41.5 بالمائة مقارنة بنسبة 28.3 في المائة قبل عشر سنوات فقط.