العدد 3296 - الخميس 15 سبتمبر 2011م الموافق 17 شوال 1432هـ

«الفتنة» بين قسوة الخطاب وشهوة الانتقام (2)

محمود القصاب comments [at] alwasatnews.com

.

في القضايا المصيرية، لا تعود المسألة تخص أفرادا أو أطرافا محددة بل يصبح الوطن كله في الميزان، ويكون من واجب الدولة ألا تلتفت إلى الأصوات المتطرفة والموتورة التي هي مسئولة أولاً وأخيراً عن تأزيم الأوضاع سياسياً واجتماعياً، ومسئولة أيضاً عن انتكاسة المحاولات والمبادرات المخلصة التي يعلن عنها من أجل تطبيع الواقع وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي! ومن المؤسف حقاً أن نرى البعض اليوم يتصرف وكأنه هو الدولة بعد أن شرعت أمامه كل الأبواب بدون وجه حق، وبعد أن جرى «النفخ» فيه وإعطائه دوراً لا يستحقه، ولا يحسن كيفية التعامل معه.

ففي الوقت الذي نسمع ونرى فيه التباكي والعويل على ضياع «هيبة الدولة» وغياب احترام القانون نرى أن هناك تعمداً في تجاهل هذا القانون من خلال الإصرار على إظهار «بطولات» فارغة، تسيء إلى مكانة وهيبة الدولة، وليست تلك الخطابات الطائفية التحريضية، والمليئة بالشتائم والبذاءات اللفظية، وليست تلك البيانات والتصريحات التي تعج بها بعض المنابر والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، ليست كل تلك سوى نماذج وعينيات رديئة مما تفيض به من غل وكراهية وأحقاد، يحار المرء في إيجاد تفسير مقنع أو مقبول لها، لكنها تؤكد أننا أمام حالة مستعصية من أزمة وعي وأزمة ضمير على حد سواء. حالة تكشف عن نفسها من خلال تلك السلوكيات والخطابات التي لا يتورع أصحابها عن استخدام أقسى النعوت وأحط الأوصاف، بحق إخوة ونظراء لهم في الوطن والدين لمجرد أنهم طالبوا بحقوقهم السياسية، وطالبوا بإنصافهم في حياتهم الاجتماعية والمعاشية، حتى وان كانت هناك بعض الأخطاء في وسائل التعبير وفي بعض الشعارات المرفوعة والتي هي حتماً لم تكن موضع قبول واتفاق الجميع.

وعزاؤنا هنا أن تلك السلوكيات والخطابات، إنما تصدر عن قلة قليلة وفئة محدودة لا يجب أن تحسب على جموع الناس من الأخيار والأطياب الذين نحبهم ويبادلوننا الحب ذاته، لأننا نعرفهم ونعرف أخلاقهم جيداً، أنهم لا يتحملون وزر ما يقع على إخوانهم من ظلم وجور، بل نحن واثقون أنهم يشعرون بالضيق والألم، مما يصيبهم من عناءات وعذابات، وينتابهم القلق والخوف من استمرار هذا التأزيم، شأنهم شأن كل المحبين والخائفين على مستقبل ومصير هذا الوطن، ودع عنك من يدعي أنه يمثلهم أو ينطق باسمهم، من تلك الأصوات التي تحركها الأهواء وتدعو إلى مزيد من البطش والانتقام واستمرار السياسات غير العادلة.

من هنا نكرر تحذيراتنا بضرورة عدم خلط تلك المواقف المشينة، بالقضايا المذهبية والطائفية، أو محاولة مدها إلى خصومات وعداوات أبدية مع أشقاء ارتبط مصيرنا بمصيرهم، ولا نرى وجودنا إلا بوجودهم، ولو كره الحاقدون. ونرى من الواجب أن نعلن عدم اتفاقنا أيضاً مع من يقول: إن السباب والشتائم هي «نتاج للثقافة العربية» لأن في ذلك خلطا وتشويها غير مقبول، ومحاولة للدفاع عن قضية عادلة بأسلوب خاطئ وغير عادل؟ فكل الثقافات الإنسانية، منها بالطبع الثقافة العربية، قد تواجه بعض مواطن العلل وفيها من أسباب الإخفاق ولكن ذلك لا يمنع من الثقة والقدرة على النهوض والتغيير متى ما وضح الطريق، وليس من الإنصاف ربط ثقافة «الردح» والشتائم والتكفير بكل أفكارها ومفاهيمها وسلوكياتها بالثقافة العربية، في الوقت الذي نعلم علم اليقين أن منابع ومصادر تلك الثقافة إنما هي هناك حيث الكهوف المظلمة التي يتوالد فيها الجمود والجهل والتخلف، وحيث «المغارات المعتمة» التي تفرخ أعشاش الإرهاب وعناصره. أما الثقافة العربية التي نعرفها ونعتز بالانتماء إليها، فإنها اليوم تصنع أمام أعيننا فجراً جديداً في الوطن العربي، فهي المسئولة عن تفجر الغضب العربي في كل الساحات العربية، لأنها ثقافة ترفض تغييب الشعب وتهميش دوره، وتزييف إرادته وإفقاره.

وقد رأينا كيف أن القاسم المشترك في كل الانتفاضات الجماهيرية والهبات الشعبية في مختلف العواصم العربية هو إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسامات بين أطياف الشعب ومكوناته السياسية والمذهبية، والتأكيد على وحدة الشعب، وعلى وحدة مصيره وترابه الوطني.

أما ما نراه ونعيشه، في هذا الموقع أو ذاك، من هذه الدولة أو تلك، من إصرار على إثارة النعرات الطائفية والعنصرية، والتمادي في إذكاء روح الغلو والتعصب، وكذلك اللجوء إلى استخدام كل أوراق الانقسام والتفتيت إنما هي في حقيقة الأمر «صناعة» حكومات وأنظمة و«ماركة» مسجلة باسمها وحدها، دون منازع وهي محاولة من جانب تلك الحكومات التي اهتزت شرعيتها للعب على الاختلافات المذهبية وتحويل الأنظار عن المطالب الحقيقية للناس، دون اهتمام بما يمكن أن تجلبه هذه السياسة من أضرار على الأوطان ووحدتها الوطنية.

ونحن عندما نتحدث عن الثقافة العربية، فإننا نعني تلك الثقافة التي تعززت بروح وقيم الإسلام، هذا الدين القيم الذي طلب من كل أتباعه أن يصبروا على الظلم وألا يكونوا ظالمين، وسن لهم أهدافا جعلها في منزلة «الفرائض» منها الإيمان بكرامة الإنسان وحريته، ومبادئ العدل والمساواة باعتبارها حقوقاً أصيلة من حقوق الإنسان، لا يجب التهاون معها أو انتهاكها مهما كانت الظروف والمبررات.من هنا نشعر بالدهشة والحيرة معاً، جراء مواقف وسلوكيات بعض تلك القوى و«المنابر» والمحسوبين عليها من تلك التي تحمل عناوين إسلامية، حيث يفترض أنها أول المعنيين بالالتزام وبتطبيق منظومة هذه المبادئ والقيم في حين ما يصدر عنها من سلوكيات وردود فعل تجاه أية انفراجات محتملة، أو إجراءات إنسانية متوقعة تكون مناقضة لجوهر تلك المبادئ وأخلاقياتها السمحة، الموقف من الإفراج عن الطاقم الطبي وعودة بعض الموقوفين والمفصولين مثالاً. بل هي بعيدة كل البعد حتى عن بعض الموروثات العربية التي نعرفها عندما كانت الحمية والأحساب هي بعض محركات الخلافات العربية، عندما كانت تتواجه قبيلتان وتبلغ بينهما الخلافات حدًا يهدد وجودهما سوياً، كانت تنطلق النداءات السلمية من وسط الخلافات والمعارك تنادي «بالبقية» أي وقف التقاتل خوفاً من زوال الجميع، والبقية هنا تعني البقاء للجميع.

ترى هل يراد منا الرجوع إلى تلك «الجاهلية» ورفع شعار «البقية...البقية»، أو نقول «لقد أكلتنا الفتنة، ولا نرى أننا سنغلب أهل العراق إلا بفناء أهل الشام»؟ليس أمامنا من خيار سوى الاستمرار في الدعوة والمطالبة ببسط الوئام الاجتماعي والسلم الأهلي في كل أنحاء الوطن، ونشر الفرح في كل أرجائه، فالأوطان تعمر بكثرة الأفراح، لا بكثرة الأحزان والمظالم!

إن أملنا بالله كبير وثقتنا بشعبنا لا حدود لها، غداً سنرى تشابك الأيدي والسواعد المخلصة، وسنرى الإرادات الوطنية الصادقة تنصهر، متخطية كل الهواجس والشكوك التي أفرزتها الأحداث المؤلمة، وستسقط كل النوايا الشريرة التي عملت على توظيف تلك الأحداث وتداعياتها المؤسفة لتمزيق النسيج الوطني والاجتماعي لشعبنا، وعندها سيكون شعبنا قد عقد العزم على قبر الفتنة في مهدها وإخماد نارها قبل أن يتطاير شررها على الجميع

إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"

العدد 3296 - الخميس 15 سبتمبر 2011م الموافق 17 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 12:14 م

      زبدة الكلام الى جميع الاطراف

      الإصرار على إظهار «بطولات» فارغة، تسيء إلى مكانة وهيبة الدولة، و تلك الخطابات الطائفية التحريضية، والمليئة بالشتائم والبذاءات اللفظية، مع تلك البيانات والتصريحات التي تعج بها بعض المنابر ووعزاؤنا هنا أن تلك السلوكيات والخطابات، إنما تصدر عن قلة قليلة وفئة محدودة لا يجب أن تحسب على جموع الناس من الأخيار وستسقط كل النوايا الشريرة التي عملت على توظيف تلك الأحداث وتداعياتها المؤسفة لتمزيق النسيج الوطني والاجتماعي لشعبنا،

    • زائر 2 | 2:29 ص

      الوعي بخطورة الفتنة يقي الأمم الوقوع فيها

      من يعرف خطورة السمّ فإنه لا يتجرعه ومن يعرف خطورة النار فإنه لا يقترب منها ومن يعرف خطورة الفتنة
      فإنه لا يقع فيها
      ولكن المشكلة في الوعي والإدراك ربما البعض يدرك ولكنه يتعمد ذلك كمن يريد الإنتحار
      على ذلك يجب على المجتمع الإنتباه لخطورة ما تمر به البلد والعمل على تصحيح الأجواء

اقرأ ايضاً