في اليوم الرابع عشر من أغسطس/آب 2011، ودَّعت الهند وملايين المشاهدين في العالم الأسطورة الخالدة، ممثل الحب الرومانسي والغناء الذي ملك السينما الهندية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ودَّعت شامي كبورالذي أمتع مشاهديه بأعظم الأفلام مثل «كشمير كي كالي» و«جانكلي» و«تومسا نهى ديكا». لقد أعاد هذا الحدث عقارب الساعة في ذهني إلى ثاني يوم عيد الفطر من العام 1966 حيث فاجأ كبور عشاقه بفيلمه الجديد «بروفيسور». لقد أدهش العرض الحضور حتى أن بعض النسوة رمينا الحلويات على الشاشة كما رأى البعض أخريات يرمين بعض قطع النقود حباً في كبور، لما أبداه في الدور من إنسانية عالية لامست قلوب المشاهدين؛ إذ أطل عليهم في دورين متباينين، الشاب الوسيم كما تعودوه، وآخر متنكر في هيئة بروفيسور عجوز. واستطاع بفنه ودهائه أن يشد المشاهد إلى كرسيه قرابة الساعتين. كانت هذة حال حقبة الستينيات. لقد غالى الكثيرون من الشباب في إعجابهم بشامي كبور كغيره من المشاهير حتى ذهب البعض إلى محاكاة طريقة مشيته، والبعض الآخر في شكل لباسه، وآخرون حركاته، لقد كان بحق ألفيس بريسلي الهند في زمانه. يقول عنه النقاد الهنود، إنه كان نجم شباك في الستينيات ومنافساً للممثل العملاق دليب كومار في يوم من الأيام.
منذ فترة قريبة شاهدت فيلم بروفيسور وأعقبته بعد أيام بمتابعة مسلسل ساهر الليل ويا للهول. فـ «بروفيسور» وإن أضحى برؤية أفضل وأعمق ...إلا أنه لا يقل عفويةً وبراءة، وقطعاً متعة مشاهدة للثنائي الرائع هيا عبدالسلام وبوشهرى اللذين جسدا روعة ورومانسية الحب في تلك الحقبة كما لو إدخارها خالصة للجمهور، فجاءت مزلزلة تحرك أوتار القلب حتى تخال أنك تشاهد الوسادة الخالية في بيت خليجي .تلك المشاهدتان مكنتاني من النفاذ الى حقبة الستينيات ولكن من موقعين مختلفين، شرفة الحاضر في الأول، والإبحار في الأمس من ضفاف الألفية في الآخر، وعلى رغم عبق وسحر الماضي في الرؤيتين إلا أن بون التلقي الشاسع بينهما نبهني إلى حقيقة غائبة وهي: ما سرتلك المتعة ؟ هل هي فى موقع «المشاهدين» من المادة المعروضة بشقيها البصري والسمعي؟ أم هي نتاج الحنين لحقبة الستينيات؟ أم هي في شيء آخرنجهله فنسبغ عليه اسماً من مستودع الذاكرة؟ لنحل به لغز تلك النشوة الأخاذة! فنختزلها في كلمة واحدة ونكتفي بالقول الفيلم جميل أو رومانسي أو إلى آخر المفردات.
دعنا نتخيل. مثال: إن زيداً من الناس شاهد أحد الأفلام المحببة إليه في أحد الأيام وجلس على الكرسي الأول من الصف العاشر واختار الوقت من الثالثة إلى السادسة مساء، ثم لشدة ولعه كرر مشاهدة الفيلم نفسه في الاسبوع التالى؛ بل وجلس على الكرسي نفسه وفى التوقيت نفسه (3-6 مساء)، وطبعاً في دار العرض الأولى نفسها. ترى هل سيرى الفيلم نفسه؟ لا أعنى الفيلم المادي ولكن متعة المشاهدة؟ بالتأكيد سيكون الفيلم مختلفاً والاختلاف، هنا هو التلقي!
أخبرني صديق أنه شاهد فيلم «العرَّاب» 4 مرات على مدى سنوات متباعدة ولكن فى كل مرة يراه مختلفاً، وبالمثل مسلسل «ساهرالليل»، وفيلم «الوسادة الخالية»، والسبب طبعا التلقي. أجل فشامى كبور فى فيلمه «بروفيسور» من العام 1966 ليس نفسه من «شرفة المشاهدين» في العام 2011، وإن كان الفيلم نفسه، وبالمثل مسلسل «ساهر الليل» بعد عام أو أكثر. لقد درج إخواننا العمانيون في الستينيات من القرن الماضي على مشاهدة فيلم «عنترة وعبلة» كل مساء، أما الطريف في الأمر فهو إطلاق بالوناتهم الفكاهية نتاج تلقياتهم المختلفة كل مساء، مثال: بأن عنترة كان متعباً في الليلة الماضية، أما هذا المساء فهو مقاتل شديد البأس هكذا يعبر البسطاء عن انطباعاتهم المحيرة بكثير من الدهشة وربما المغالاة حتى تصبح في بعض الأحيان مدعاة للفكاهة، أما الهنود فالتلقي عندهم يحظرعلى مخرج الفيلم أن يميت البطل مهما كلف الأمر لأنه ملك لمحبيه من الجمهور البسطاء. أما اذا أصاب البطل بسوء فالله وحدة يعلم ماذا سيحل من دمار بدار العرض (السينما) هذا إذا قبل المستثمرون شراء الفيلم من الأساس. كذلك نسمع في ثقافة الشعوب والأمم من حين لآخر العبارة الخالدة (إمام أو قائد وطني يرفض الرحيل) مثل الإمام علي (ع)، وغاندي، وعبدالناصر. لقد ترك هؤلاء القادة تلقيات فائقة التأثير في نفوس محبيهم تلقفتها وتعاقبت عليها الأجيال فوصلت إلينا في حلل زاهية متخطية حواجز الزمان والمكان فأضحت رموزاً أزلية.
من نعم الباري عز وجلّ على الإنسان القدرة على الكلام، ملكة التحدث هذه جعلت البشر يخلقون تسميات لكل جديد في حياتهم تحت مسمى (اسم) فالأبوان يسميان ابنهما أو ابنتهما اسما ثابتاً لا رجعة فيه، والسبب هو اعتقاد الإنسان عن دون قصد بأزليته، فالإنسان من الممكن أن يتخلى عن أفعاله، ومشاعره، وأفكاره، ولكن لا يمكن أن يتخلى عن اسمه، لذلك لا تحتمل الأسماء التغيير إلا فيما نذر، وعليه درج الإنسان على إعطاء اسما لكل شيء بدءاً من أسماء البشر نزولاً إلى الماديات التي نتعامل ونحتك بها مشياً على القناعة نفسها بأن الأسماء أزلية، لأنها تشير إلى الصورة الخلفية غير المتغيرة أو (المطلق العظيم) وهكذا صار هناك تصنيف أسماء لكل شيء، فالناس معنونون بأسماء أصبحت فيما بعد هويات في دوائر السجل السكاني، وبالمثل الأشياء الأخرى كالنبات والحيوان والجماد والبلدان أصبحت لها مراجع فى معاجم اللغات على اختلافها
إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"العدد 3295 - الأربعاء 14 سبتمبر 2011م الموافق 16 شوال 1432هـ