لا تتعجب هذه الأيام إن اضطررت، عافاك الله، للذهاب إلى تلقي العلاج أو مرافقة مريض في مستشفى عام، إذا لم تجد كما كان سابقاً ذلك البحريني المتواضع بلباسه الأبيض أو الأزرق الجميل يستقبلك ببشاشته وبساطته ويحيّيك (مهما اختلف مشربك) بأجمل تحية ويودّعك بابتسامته العفوية: «خلّصت؟ ما تشوف شر عمّو». إنها «الخصخصة» الاضطرارية التي تتم على عجالة لسد الشواغر، فلا تتكدّر.
لقد بدا الأمر وكأننا نعيش معركة غامضة الدوافع بين الجهات التنفيذية، فأوامر عاهل البلاد (وهي أوامر وليست مقترحات برغبة) باتت واضحة وضوح الشمس، بإرجاع الموقوفين والمفصولين خلال الأحداث الأخيرة إلى أعمالهم، إدراكاً لأهمية الإبقاء على خيوط الأمل للأسر مقطوعة الرزق، وشعوراً بضرورة استعادة اللحمة الوطنية التي يستمرئ «معوَّقو الضمير» الاستمرار في تقطيعها.
مازالت الدعوات الملكية تواجهها دهاليز من البيروقراطية المتعمدة، والتعقيدات المغلّفة بضغائن الانتقام على الهوية، ومازالت أخبار الفصل وتجديد التوقيف الذي يكون شفهياً في الغالب مستمرة، في ظل توجيهات مناقضة من جهات أخرى وقرارات علنية بحسب مقتضى الحاجة، و»تمريرات» سرية تسرّب بعضها أخيراً، تحاول عرقلة تلك الأوامر العليا. فما الذي يحدث؟ أكُلُّ هذا العصيان والتمرد على أوامر القيادة يأتي رضوخاً لشهوات حفنة أصوات انتقامية لا تقيم وزناً لنسيج اجتماعي؟ أم إنها الفتنة، لا بارك الله فيها، تعمي الأعين عن النظر إلى ما يخبئ المستقبل؟ هُناك من لا يريد أن يستوعب درساً تاريخياً بسيطاً جداً، فيحاول جاهداً اختراق القانون الكوني بأضغاث نواياه! مخطئ من يظن أنه يستطيع إغراق نصف مجتمعه في الوحل، والمكوث لوحده في الأبراج العاجية، مهما كانت المبررات.
ما لا يريد أن يفهمه النافخون في نار الانتقام إلى اليوم أن هذا المجتمع مهما اختلفت توجهات أبنائه فإنهم مرتبطون بمصير واحد، ولا فضل ولا منّة لأحد على أحد من فئات هذا الوطن. هذه سنّة كونية عجزت عن اختراقها حتى القنبلة الذرية، التي ألقتها أميركا على هيروشيما ونغازاكي العام 1945م، فعلى رغم أنها استطاعت بـ 10 آلاف طن من المتفجرات وفي ومضة سريعة قتل 140 ألفاً من الآدميين الأبرياء، فإن المدينتين مازالتا شامختين بأبنائهما، بل تنعمان بأفضل مما ينعم به غيرهما من حرية وأمن واستقرار.
في بلدنا الحبيب هذا كان لا يجرؤ متهوّر أن يجاهر بمعاداة أهل ديانة أو طائفة من مكوّنات المجتمع المتحاب والمترابط، ولا يفكّر في إهانة وتخوين مواطن هنا أو هناك، وإلا فسيلقمه أهله حجراً يسدّ حنجرته. أما اليوم فصار المتهوّرون دعاة الشقاق مدللين تحت أجنحة دافئة تؤويهم وتمدّهم «بالخيل والرجال»، ثم نريد للمجتمع أن يبقى متوحداً.
في واحدة من أكثر المشاحنات الطائفية كراهية بات المجتمع البحريني الطيّب يشهد دعوات جهريّة يومياً بمواصلة قطع الأرزاق عن فئة معينة لأنها فكرت أن تطالب بحقوقها، وترتفع الدعوات من على المنابر بنسف فئة كبيرة من المجتمع وطردها من البلاد، فيما تتغافل عنها الجهات المعنية التي لا تشم الفتنة والتحريض الطائفي إلا فيما تشاء.
هنا لدينا فقط، ومن دون مواربة، يتم التشهير بجزء كبير من المواطنين بأسمائهم يومياً، واتهامهم بالكفر والجحود والخيانة، وتتم محاكمتهم (صحافياً) وإصدار أحكام الفصل والاعتقال، وفي اليوم التالي يتم التنفيذ العاجل.
هنا لدينا فقط، تصدر الأوامر من هرم القيادة، فتخرج الأصوات وتشق عصا الطاعة، التي تنادي بها، مطالبة بمخالفتها عبر الإصرار على وقف إرجاع المفصولين إمعاناً في التشفّي، وتعترض على قرارات القضاء الذي لطالما نافحت عن حياديته ونزاهته، فقط لأنه برّأ بعض المتهمين وأمر بالإفراج عن معتقلين إخوان لهم في الدين وشركاء لهم في الماء والملح ردحاً من الزمن، فأصبحوا بين ليلة وضحاها لا يستحقون البقاء على أرض الوطن.
لا أدري، هل فكّر هؤلاء يوماً كيف سيكون حالهم عندما تستتب الأمور وتعود مياه الأحبّة لمجاريها؟ وبأي وجه سيقابلون إخوتهم في العمل والشارع والسوق وفي كل مكان من هذا البلد الصغير المتزاحم، بعد أن خوّنوهم ووشوا بهم؟ ماذا لو لم نستطع إجبار مكوّن أساسي في مجتمعنا على مغادرة الوطن بغضاً في هويته؟ كيف سنتعايش معه مجدداً؟ أخشى أن تكون هذه هديتنا التي سنقدمها لأبنائنا في المستقبل؛ بيت واحد يعيشون فيه على صفيح من نار طائفية، لا يرحم فيه أخٌ أخاه، يسارع للانتقام منه كلما سنحت له فرصة، ويستلذ بقمع أحلامه وإن كان هو المستفيد الأول منها. كل ما أعرفه أن لسان حال أولئك المتضررين والمعتقلين والمفصولين والموقوفين عن أعمالهم، على رغم مرارة ما ذاقوه، يقول لمن ساهم في معاناتهم من إخوة الوطن، فضلاً عمن عضوا على نواجذهم وحملوا الجمر إصراراً على إبقاء روح التآخي:
إني أحبُّكَ.. كي أبقى على صلة
بالله بالأرض بالتاريخ بالزمنِ
بالماءِ بالزرع بالأطفال إن ضحكوا
بالخبز بالبحر بالأصداف بالسفنِ
فهل نستوعب الدرس جيداً قبل أن نستيقظ متأخرين؟ ذلك لكم
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 3294 - الثلثاء 13 سبتمبر 2011م الموافق 15 شوال 1432هـ
إني أحبُّكَ.. وأحب مقالاتك
هكذا تشروننا إننا لا زلنا بخير ، فأنت بكتاباتك أيها الأخ العزيز تلهمنا الصبر وتنفث ما في قلوبنا ..
فاكتب .. ثم اكتب لنرتاح من مقالات وكتابات الفتنة .
مقال رائع
مقال رائع يحتاج الى ظمائر تطهر العقد والاغلال المقيدة بالنفس الطائفي الظالم لنفسه التي هي نفس أخيه المسلم-هي بمثابة أصعب المراحل النفسية لتطهير الذات
سامحتهم في الدنيا فقط
أنا أحد المقطوعة ارزاقهم ظلما ووشاية وعدوانا، قررت عندما يكتب الله لي العودة للعمل ان أسامح من أهدر كرامتي وانسانيتي وجرع ابنائي الغصص، أسامحه ليس حبا فيه فقد دمر أجمل الذكريات معه، لكني أسامحه من أجل البحرين فلا أرغب ان أسقي بذورالاحقاد التي أنبتت في وطني خلال الشهور الماضية، ولكني يوم القيامة سأتشبث برقبته طالبا من الله أن يأخذ حقي ممن ظلمني.
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني اليه في الخلد نفسي
تحية لك ابو سجاد ولكل الشرفاء ولكل قطرة حبر ومداد قلم يسعى للملمة الشمل وجبر الالم
المفصولون والمعتقلون قضية وطن وانسانية ودين وكل ذلك حري بان يحترم ويعود المفصولون ويفرج عن المعتقلون ولو بواحدة منها
الا ان يخرجنا البعض من كل ذلك
مفصول بتلكو
سلمت
لافض فوك أجبرت الخاطر بنقل الصوره الحقيقيه للاسف هذا حال بعض الناس ولن يستمر
ناصر
شكرا على مقالتك ولكن لاحياتة لمن تنادي
إني أحبكَ
انا بعد احبك يابوسجاد
عرفت تختمها
الله اوفق ونشوف كتاباتك يوميا