هل قدرت إسرائيل أكلاف إحجامها عن تقديم «الاعتذار» لتركيا؟ قبل الإجابة بنعم أو لا، يستوجب الأمر النظر في خلفية العلاقة التركية الإسرائيلية.
ففي سبتمبر/ أيلول الجاري أعلنت أنقرة بدء تطبيق مجموعة عقوبات ضد إسرائيل، وباشرت بخفض علاقاتها الدبلوماسية لمستوى السكرتير الثاني ثم طردت السفير الإسرائيلي، وأسست لإجراءات مستقبلية نفذت منها تعليق اتفاقاتهما العسكرية في مجال الصناعة الدفاعية والتجارية الثنائية، وباتجاه رفع دعوى عليها في «محكمة لاهاي» للاحتجاج على عدم شرعية حصار غزة، وملاحقة المسئولين العسكريين ممن ارتكبوا جريمة قتل تسعة أتراك في 31 مايو/ أيار 2010 على السفينة «مافي مرمرة» المتجهة لكسر الحصار، كما صرحت عن تعزيز دورياتها البحرية في شرق البحر المتوسط حيث تتواجد فيه قاعدتان بحريتان لها، وكذا إعلان أردوغان نيته التوجه إلى غزة، وقبلها بأسابيع حرق العلم الإسرائيلي في اسطنبول على يد مجموعة أتراك بعد صلاة الجمعة، كرد فعل لرفض إسرائيل تقديم «اعتذار» عن جريمة القتل.
بالطبع عند تقليب تاريخ الأزمة، سنجدها ليست وليد اللحظة، والعلاقة التركية الإسرائيلية المتأسسة بعد عام من النكبة الفلسطينية بحاجة إلى نظرة فاحصة، صحيح أن أهمية العلاقة برزت استراتيجياً بعد ثورة إيران وسقوط إمبراطورية الشاه الحليف القوى آنذاك لإسرائيل، وهذا ما جعل العلاقة تحظى بتأييد ورعاية أميركية أثناء الحرب الباردة بين الأميركان والسوفيات، إلا أن الصحيح أيضاً أن العلاقة شابها جمود في 1981 إثر صدور القانون الإسرائيلي بضم القدس، وخفضت تركيا وقتها تمثيلها الدبلوماسي، إلى حين شهد الوضع تحسناً بينهما في 1992 بعد مؤتمر مدريد، فبلغت علاقتهما التجارية والعسكرية مداها في إطار تحالف استراتيجي واستخباري، ثم ما لبثت أن تراجعت مجدداً مع مجيء رجب طيب أردوغان للحكم.
وعلى رغم ذلك، فالتقارير تؤكد أن حجم التبادل سنوياً بينهما ينمو باضطراد وبلغ «2.8 مليار دولار» العام 2007 مقارنة بـ «200 مليون دولار» العام 1993، وبحسب مركز الصادرات الإسرائيلية، قيمة صادرات الأخيرة لتركيا بلغت «858 مليون دولار» في 2011، وبزيادة قدرها 23 في المئة، كما بلغت واردتها لتركيا «1.8 مليار دولار» العام 2010 بزيادة قدرت بـ 30 في المئة العام 2009، وارتفع في غضون 2011 إلى «1.1 مليار دولار» وبزيادة «14 في المئة»، ويتوقع زيادتها إلى «2.2 مليار دولار» في السنة، في حين بلغت صادرت تركيا إليها «1.5 مليار دولار» و «1.2 مليار دولار» للواردات.
هذا وتحفظت «إسرائيل» في علاقتها مع تركيا بعد تحسن علاقة «حزب العدالة والتنمية» التركي مع حركة «حماس»، ولاسيما عندما استقبلت أنقرة خالد مشعل العام 2006، فأخفت عن تركيا حليفها الاستراتيجي نية هجومها على غزة، ما أشعر أردوغان بالإهانة الشخصية، فشن هجومه الشهير بعد الحرب من منصة «منتدى دافوس» وأهان شمعون بيريز أمام العالم، وبلغ تدهور العلاقة مداه حين تم استدعاء السفير التركي في إسرائيل وتوبيخه على مسلسل تركي يعرض عن الاحتلال، وإهانته على الإعلام المرئي، وجاءت «حادثة أسطول الحرية» التي قصمت ظهر البعير، ومن وقتها والعلاقات آخذة في التدهور.
بالنسبة للأتراك، أشارت بعض التحليلات الناقدة لقصور في ردة الفعل التركية الرسمية وقت حادثة «مافي مرمرة» واقتصاره على سحب سفيرهم من تل أبيب من دون قطع أو خفض للعلاقات الدبلوماسية، باستثناء تدابير محدودة لا تليق بدولة كبرى تسعى للعب دور إقليمي، مع تواصل لقاءات مسئولين أتراك و «إسرائيليين» من دون تنازل تل أبيب لمطلب «الاعتذار والتعويض»، فضلاً عن غرابة سلوك تركيا حين أرسلت طائرات لإخماد الحرائق في الكيان الصهيوني، وهذا ما عدته «إسرائيل» بضعف للموقف التركي، أضف إليها تخلي تركيا عن تشكيل لجنة تحقيق دولية بالحادثة وقبولها «بلجنة بالمر» المحدودة التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة وصدور تقريرها المشرعن لحصار غزة دولياً والذي يشكل انتهاكاً فاقعاً للأعراف والقوانين الدولية. التقرير أعده المراقبون إخفاقاً لدبلوماسية الخارجية التركية، ووجدوا العقوبات الحالية متأخرة عن وقتها على رغم إيجابيتها.
لاشك ثمة إرباك وتخبط سياسي إسرائيلي إزاء تقدير الدور التركي المقبل وعدم احتساب دقيق لنتائج جريمتها وما ستخلفه على الشارع التركي من ردود أفعال غاضبة وشعور جماعي بالإهانة من شعب يعتز بقوميته، بدا التخبط جلياً عبر اتجاهين في حكومة العدو، عبر عنهما وزيران كانا ضد «الاعتذار» من منطلق الحفاظ على «الاحترام القومي»، فيما شجع وزيران آخران الاعتذار تحقيقاً «لأهداف كبرى»، وكان قرار الحسم «لنتنياهو» الذي رفض بغطرسته المعهودة «الاعتذار» ما أغضب أنقرة، فقامت بما قامت به، على رغم تصريح مسئول إسرائيلي بأن بلاده لا ترغب في مزيد من تدهور العلاقة مع تركيا، وما رشح من صحافة العدو عن عرضهم دفع مليون دولار كتعويض عن كل قتيل من ركاب السفينة، بيد أن العرض قوبل بإصرار تركي على تقديم «اعتذار» رسمي من الكيان الصهيوني وعدم الاكتفاء بالتعويضات، بل واستعدادهم لمضاعفة التعويضات عوضاً عن «الاعتذار».
كما اتفقت الكثير من الآراء، بأن ردود الأفعال التركية تمثل تهديداً بخسارة حليف استراتجيي لإسرائيل هي أحوج ما تكون إليه، ولاسيما مع المتغيرات التي تمر بها المنطقة. فالدور المتوقع أن تلعبه تركيا في إطار تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية لمواجهة إيران وتقسيم الأدوار في المنطقة دور رئيسي، وخصوصاً بعد قبولها نصب قواعد الدروع الصاروخية الأطلسية في تركيا بعد معارضة روسيا نشرها في دول أوروبا الشرقية، وتنامي ثقل دورها في حلف شمال الأطلسي الذي تمارسه عبر برغماتية تبرز أولوية الدولة على الدين، فيما قلل آخرون من ذلك واعتبروا موقف تركيا مجرد موقف دفاعي، بل إن أردوغان يمارس انتهازية سياسية إزاء الداخل والخارج لن تنفعه في تحول تركيا لدولة مركزية ولن تزيد من رصيدها التنافسي إقليمياً.
الأرجح، أن عقوبات الأتراك وضعت إسرائيل بين خيارين يمثلان مأزقين لها، إما «الاعتذار»، وإما «إنهاء العلاقات». الاعتذار يعني ما يعنيه من اعتراف بجريمة القتل، وإن حدث فهو سيهز الغطرسة الصهيونية المرتكزة على مبدأ خصوصيتهم القومية، وإن فُعِّل خيار «إنهاء العلاقات»، فهذا يعني تعزيزاً أكثر لموقع تركيا الإقليمي الساعية لتعزيزه واستثماره في إطار لعب دورها الإقليمي الجديد وربما الكبير عند إعادة توزيع الأدوار في المنطقة، باعتبار أن الأميركيين والأتراك متفقون بشأن استقرار الشرق الأوسط وتوسعة الأسواق وسيطرة القوة الدولية على منابع النفط والنفوذ في المنطقة.
الأهم من هذا وذاك مقاربة الحلم التركي في إعادة وبناء «الاستراتيجية العثمانية الجديدة» في المنطقة، لم لا والأردغانية تمثل مرحلة تاريخية تشهد ببناء الأمة - الدولة على أسس ديمقراطية - ليبرالية قائمة على التعددية والتسامح بين الدين والسياسة، مرحلة لها ثقلها كما كانت مرحلة الأتاتوركية التي تأسست على ركائز العلمانية والحداثة
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 3294 - الثلثاء 13 سبتمبر 2011م الموافق 15 شوال 1432هـ
كلام صحيح
المقال في الصميم وهو كلام صحيح