ربما معظمنا لم يكن يعرف العالم المصري علي مصطفى مشرفه، الوحيد عربياً بل وربما في الشرق، المتخصص في مطلع القرن العشرين بعلوم الفيزياء والذرّة. الحاصل العام 1923على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم من الكلية الملكية بلندن المعروفة بـ (kings college)، كما حصل العام 1924 على دكتوراه العلوم من جامعة لندن وهي أعلى درجة علمية.
ولم يكن أحدٌ يهتم بسيرة وحياة هذا العالم ودوره الحضاري في خارطة الثقافة والعلوم العربية من واقع خبراته ومواهبه المتعددة، لولا بركات المسلسل الرمضاني «رجل من هذا الزمان»، الذي بثته قناة «نايل دراما-2»، من تأليف الكاتب المبدع محمد السيد عيد، وإخراج المبدعة أيضاً إنعام محمد على.
ما يجبر القلم أن يكتب بضع كلمات عن هذا العمل الحيوي المهم وصاحبه، أنه جاء من ذاك الزمان لينطق بما تموج به الساحات العربية في هذا الزمان من المحيط إلى الخليج. وكأن الأوضاع في الوطن العربي طوال الثمانين عاماً الماضية بين حياة وزمن العالم المصري مشرفه وما يحدث الآن لم تتحرك من مكانها، بل عادت حتى لما قبل زمن مشرفه، من تسلط القوى الخفية والعلنية على مقدرات الأرض والعباد، والاستئثار بالسلطة والنفوذ على رغم أنوف الجميع.
فعلي مشرفه كان يعاني كعالم أكاديمي موهوب، من غربةٍ في بلده وتقييد لحريته، يقابلها حرية تكاد تصل لدرجة المواطنة في غربته ببلاد الإنجليز، على رغم أن بريطانيا كانت هي التي تحتل مصر في تلك الفترة. ومع ذلك فلم يقف أحد في بريطانيا ضد مشرفه كعالمٍ، ولا ضد دراسته خارج مصر والنهل من علوم الغرب الذي بدأ يتطور آنذاك خصوصاً في مجال الفيزياء والذرة. ولم تقم الدنيا ولم تقعد في بريطانيا الاستعمارية مثلاً لتلك العلاقة الحميمة التي نشأت بين عالم الذرّة (البرت انشتاين) وبين مشرفه. بل الغريب - كما هي حال السلطات العربية - قامت الدنيا ولم تهدأ في قصر الملك فاروق لأن العالم الجليل الذي يحترم نفسه وتاريخه العلمي وشهادته الأكاديمية، لم يبهره ذاك اللقب التركي البائس (باشا) الذي تكرّم الملك ومنحه إياه، مع أنه من مخلفات الدولة العثمانية البائدة، واعتبرها أعظم منحة من ملكٍ لعالِم. ولم يشكر العالِم مشرفه الملك فاروق عليه مما حدا بذاك الجالس على عرش مصر في تلك الفترة أن ينصب العداء لتلك الموهبة النادرة في العالم العربي لهذا السبب البسيط. وكما ذكر المسلسل بأن مشرفه لم يكن يعتبر فاروق سوى جاهلٍ ومغرورٍ يحكم مصر اعتماداً على تاريخ عائلة الخديوي في مصر.
هو صراع إذن كشفه المسلسل بوضوح بين عالِمٍ وجاهل، الأول رغم ظروفه السيئة جداً فقد كان في الحادية عشرة من عمره عندما فقد والده العام 1909، بعد أن خسر الأخير ثروته في مضاربات القطن العام 1907 وبالتالي خسر أرضه وماله وحتى منزله، فوجد مشرفه نفسه رب عائلة معدمة مؤلفة من والدةٍ وأختٍ وثلاثة أشقاء. ولكنه اعتمد على موهبة حقيقية وعلمٍ فذ وتفوقٍ مبهر حتى للأجانب الذين منحوه درجة الدكتوراه في فترة قياسية في بلادهم لم يتمتع بها أقرانه من الإنجليز، وهو المجدد والمتحضر بمعنى الكلمة في نظرته للحياة والمجتمع من حوله في بلده والساعي لخير الناس ووطنه وليس لنفعه الشخصي. هو الذي ألّف في فترةٍ بسيطةٍ بين 1937 - 1943، عشرة كتب مهمة جداً في مجالي الرياضيات والذرة في المجال الأكاديمي. وأنجز بين الأعوام 1922 - 1949 نحو 24 بحثاً أكاديمياً باللغة الإنجليزية بما فيها بحوث الدكتوراه نُشرت في كبريات المجلات العلمية العالمية آنذاك.
والثاني الذي كانت كل حظوته في الحياة أنه ورث السلطة من عائلة تركية جاء بها الغزو العثماني لمصر في القرن السادس عشر للميلاد بعد دحر فلول الدولة المملوكية - إثر مقتل السلطان قانصوه الغوري - في موقعة مرج دابق على تخوم الشام. لا علم بارز ولا رعاية أو إدارة متفردة في زمانها لبلاده، بل إن حادثة فبراير/ شباط 1942 ووصول الدبابات الإنجليزية لقصر الملك تعتبر وصمة سيئة في تاريخ ذاك الملك المخملي.
والأسوأ، هو ذاك الموقف الذي تبناه فاروق ضد العالِم مشرفه بسبب عقدة الملك من العلماء والأكاديميين المتفوقين بعلمهم أمام عرشه المتهاوي من كثرة الوزارات التي غيّرها؛ حيث أنه لم يهتم بالتحقيق في أسباب وفاة مشرفه الفجائية وهو لم يكن يعاني من أمراض مزمنة، بعكس ما أظهره الملسلسل من أنه كان يعاني من أزمات قلبية لدواعي الدراما، ولعدم بث الإحباط بين الشباب. كل هذا لأن الملك كان يكره العالِم مشرفه بسبب عدم اهتمامه كثيراً بلقب «الباشا». والأدهى، كما يذكر في سيرة حياة هذا العالم، أنه ربما كان القصر وراء مقتله في 15 يناير 1950 حيث أشيع وقتها أنه قتل مسموماً بسبب أحد مندوبي الملك فاروق، كما قيل أيضاً إن موته المفاجئ نتيجة إحدى عمليات جهاز «الموساد» الصهيوني، كما حدث لتلميذته في علوم الذرّة سميرة موسى التي قُتلت في حادث غلفته ظروف غامضة أيضاً.
وسواءً هذا أم ذاك، فالسبب الأساس في الإحباط والآلام النفسية التي تعرض لها مشرفه وهو يضع اللبنات الأولى لتطور بلده مصر ومعها العالم العربي حضارياً في العديد من المجالات ومنها مجال الذرة للأبحاث السلمية، هو ما عاناه من صنوف القهر والإذلال والإهانات من القصر الملكي في عهد الملك فاروق، الذي وضع نصب عينيه عدواً واحداً له في بلده، وليس هناك غيره، وهو الأكاديمي علي مصطفى مشرفه. في الوقت نفسه الذي تنبأ فيه هذا العالِم بسقوط طاغية بلده الذي أطاحت به ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. وما أشبه الليلة بالبارحة
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3288 - الأربعاء 07 سبتمبر 2011م الموافق 08 شوال 1432هـ
قد يكون
قد يكون عالم في الفيزياء .. لكنه جاهل في السياسه..فلو تقرب للسلطان لاستطاع نقل افكاره الي القمه ومنها الي القاعده ..
العالم والجاهل
سلمت يا سيد القلم.
سلمت يداك وسلم قلمك
فقد صدقت والله ما أشبه الليلة بالبارحة