العدد 328 - الأربعاء 30 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الآخرة 1424هـ

العولمة بين منظورين: قدر محتوم أم وهم جغرافي من صنع أهل الهيمنة؟

خلال العام الدراسي الماضي كانت قضية العولمة محل نقاش محتدم في سمنارات مركز دراسات الديمقراطية بجامعة وستمنسر، ما بين مشكك ورافض ومتحمس. وأنتقي هنا مداخلتين تمثلان اتجاهين على طرفي نقيض في المسألة، الأولى هي مداخلة المحاضر في العلاقات الخارجية بالجامعة المفتوحة طوني ماكجرو، الذي يميل إلى اعتبار العولمة واقعا لا مفر من التعامل معه، ومع ان ماكجرو يورد اقوال المشككين فإنه يرجح كفة المتحمسين، وقد استدل على ذلك بوقائع منها:

- في كل يوم تتداول أسواق العملة الصعبة مبالغ تفوق تريليون وربع تريليون دولار، وهو مبلغ يساوي خمسين ضعف حجم التجارة الدولية وتتضاءل امامه ارصدة اغنى الدول من العملة الصعبة

- تسيطر الشركات متعددة الجنسيات على ثلث الانتاج العالمي و70 في المئة من التجارة الدولية و80 في المئة من الاستثمارات الدولية

- المشكلات البيئية وتعقّد العلاقات التجارية الدولية تفرض على الدول تعاونا وثيقا لمعالجة المشكلات المشتركة

- زاد عدد السياح بين عامي 1960 و1995 من 70 مليونا إلى 500 مليون.

- وما بين مطلع هذا القرن والعام 1993 زاد عدد المنظمات الطوعية ذات النشاط الدولي من 671 منظمة إلى 28900 منظمة.

كل هذه التطورات دفعت البعض إلى القول بان عهد الدولة القومية قد انتهى، وان التطورات الاقتصادية والسياسية الدولية أصبحت اقوى من سيطرة أية دولة. ومع ان ماكجرو لا يقبل مقولة تهميش الدولة القومية، فإنه يرجح مع انطوني جيدنز ان هذه التطورات تغير وتعيد صوغ الدولة ومهماتها. ولعل اهم نتائج العولمة في نظر ماكجرو هي وجود مراكز للسلطة خارج إطار الديمقراطية ذلك ان الديمقراطية حسب المفاهيم السائدة تقتصر على إطار الدولة القومية، فالحكومات تنتخب وتحاسب في البرلمان داخل إطار دولة معينة ولكن لا احد من الملايين الذين يتأثرون بالشركات المتعددة الجنسيات يملك وسيلة لمحاسبتها - فيما عدا القلة من مساهميها طبعا - وعليه فان الوضع الجديد يتطلب توسيع نطاق الديمقراطية حتى تشمل الإطار الدولي، بما في ذلك مؤسسات الامم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية.

من جانبها فإن استاذة الجغرافيا في الجامعة المفتوحة أيضا دورين ماسي، تتحفظ بقوة على خطاب المتحمسين للعولمة، مشيرة إلى انهم ينطلقون من منطلق قدري يرى علاقة حتمية بين التطورات التقنية وشكل العلاقات الدولية، وفوق ذلك فإن خطاب العولمة مليء بالتناقضات والتلاعب بالحجج بنقل النقاش من مستوى إلى مستوى. فمثلا نجد المتحمسين للعولمة يتحدثون عن حتميتها وكونها قدرا مقدورا لا مفر منه وفي الوقت نفسه، نجدهم يجتهدون اجتهادا لا حد له في انفاذ هذا القدر المقدور! فالمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تضغط جاهدة على دول العالم الثالث لكي تلغي الحواجز في وجه التجارة الدولية والتركيز على التصدير بدلا من الانتاج المحلي، وعموما انتهاج سياسات تضر بالفقراء وبالمثل يمكن النظر إلى جهود الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية الكبرى لاتمام اتفاق منظمة التجارة العالمية فنحن هنا امام «قدر» هو في الواقع من صنع اطرافه التي تحتال لانفاذه بالاحتجاج بانه قدر لا مفر منه.

وبالمثل فإن تخيل العولمة في صورة فضاء جغرافي مفتوح بلا حدود يضع مفهوم العولمة امام مأزق التناقض مع حقائق الواقع، ولكن المتحمسين للعولمة لا يعدمون حيلة هنا أيضا فاذا قيل لهم ان مالي - أو حتى الصين - ليست جزءا من هذه القرية الكونية، اجابوا: ليس بعد وهكذا يتحول الحجاج من مستوى المكان إلى مستوى الزمان، ويستمر خلط الاوراق المتعمد.

هنالك جانب آخر مهم مسكوت عنه في خطاب العولمة، فمشروع العولمة فوق انه غير مكتمل فإنه يقوم على عدم مساواة اصيلة فيه. فتحت خطاب وحدة العالم الجغرافية يختفي مشروع للهيمنة تكشف عنه الارقام: ففي هذه القرية الكونية «الواحدة»، نكتشف ان 19,5 في المئة من الاستثمار المباشر و80 في المئة من التجارة الدولية تنحصر في منطقة من العالم يعيش فيها 28 في المئة فقط من سكان العالم.

ولكن أكبر تناقض في خطاب العولمة يبرز بوضوح في التباين في خطاب انصارها تجاه قضايا يصعب الفصل بينها فخطاب العولمة هو في حقيقته خطاب الليبرالية الجديدة الذي يركز على حرية التجارة، ويدعو لازالة كل العقبات في وجه حرية حركة الأموال والبضائع، ولكن حرية التجارة لا تكتمل إلا بحرية تحرك العمالة ولكن قوى اليمين التي تستميت في الدفاع عن حرية التجارة، تتحول إلى نقيض موقفها هذا عندما يأتي الحديث عن قضية الهجرة فهنا لا يمثل العالم قرية واحدة بلا حدود، بل يتحول إلى «اقاليم» منفصلة، لكل منها حق الدفاع عن وجوده و«هويته»، وهكذا تتبخر في لحظة كل تلك الدعاوى عن حرية التجارة والحركة، وتتهم العمالة التي تريد الانتقال إلى الدول الصناعية بانها نموذج لـ «هجرة اقتصادية» يجب الحد منها ومحاربتها.

من كل هذا تستخلص دورين ماسي ان خطاب العولمة ابعد ما يكون عن تقرير لواقع، واقرب ما يكون إلى تبرير لأفعال ومصالح وتوجهات من يصدر عنهم هذا الخطاب. اما التناقض في داخل هذا الخطاب فليس مصادفة، بل يعكس طبيعة هذه «العولمة» والمصالح الاقتصادية التي تقف وراءها. وتؤيد الباحثة في مركز دراسات الديمقراطية شانتال موف آراء ماسي إذ توجه انتقادا حادا الى قوى اليسار الجديد في أوروبا، وعلى رأسهم زعيم حزب العمال البريطاني طوني بلير حين يتعللون بضرورات العولمة للتهرب من مسئوليات دعم دولة الرفاه التي كان اليسار يتمسك بها، فهؤلاء يقولون ان ايدينا مغلولة ولن نستطيع الاستجابة لمطالب العمال بسبب ضرورات العولمة. وتقول موف انه فعلا اذا كانت الشركات متعددة الجنسيات تستأثر بنصيب الأسد من التجارة والانتاج، وتتهرب من الضرائب، فإن من الطبيعي ألا تجد الدولة موارد تفي بدعم الطبقات الفقيرة، وسد احتياجات الصحة والتعليم. وتقول موف إن الرد على هذه «العولمة» يجب ان يكون بمجهود «عالمي» مضاد، ينطلق من منطلقات مختلفة، ويستند على التناقض القائم بين مصلحة رأس المال ومصلحة غالبية العاملين.

يمكن ان نستخلص من هذا الحوار نتيجة أولية: وهي اتفاق من يقرون بالعولمة ومن يتشككون في دوافع المروجين لها على انه مهما كانت حقيقة العولمة، فإن الدول والشعوب ليست بلا خيار تجاهها فمن يقبلون حتمية العولمة يرون ضرورة التقنين لنتائجها، انما بالسعي الى خلق ديمقراطية كونية، أو بخلق آليات دولية مثل منظمة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات وتصب في هذه الخانة أيضا التجمعات الاقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة الحرة في شمال أميركا، أو تجمع آسيا والمحيط الهادي، وغيرها من التجمعات الرامية إلى خلق وحدات تجارية اكبر تحمي اطرافها من بعض عواقب العولمة.

اما المتشككون فهم يرون طبعا ان العولمة ليست قدرا، بل هي نتيجة سياسات متعمدة تروج لها الرأسمالية الدولية، وبالتالي فإن هناك وسائل تتحكم في الأمر من بدايته ومع التسليم بان هناك مجالا واسعا للتحرك في إطار العولمة، الا ان ما يضعف حجة المتشككين في العولمة ما كشفت عنه الحوادث في السنوات الماضية والذي يظهر ان هامش الحركة محدود، فقد عجزت بريطانيا ووراءها السوق الأوروبية بكل امكاناتها عن الدفاع عن عملها في وجه المضاربين في مطلع التسعينات، وحدث الأمر نفسه بنمور جنوب شرقي آسيا العام قبل الماضي، ولكن حتى هنا فإن من الواضح انه لو تعاونت كل الدول الكبرى في مجال معين فإن من الصعب على المضاربين ان يتلاعبوا باقتصادات دول كاملة كما يفعلون الآن.

يمكن تلخيصا ان نقول إن التطورات الاقتصادية والتقنية خلال العقدين الماضيين ـ ومنها ثورة الاتصالات وتوسع التجارة الدولية ـ قد خلقت ظروفا تحد من قدرة الدول منفردة على التحكم في حركة السوق، وفي الوقت نفسه ركزت قدرات وسلطات واسعة في ايدي جهات لا يحاسبها أحد ـ مثل المضاربين والشركات متعددة الجنسيات وغيرها ـ ولكن هذا الوضع لا ينبع من حتمية قدرية، بل انه يعكس الطريقة التي اختارت بها الجهات النافذة في المجتمع الدولي ان تدير بها شئونها وشئون العالم. وقد أثبتت ماليزيا من طريقة تعاملها مع الازمة الأخيرة ان هناك خيارا غير الاستسلام لتيارات العولمة المزعومة، وبالمثل نجد الولايات المتحدة لا تتوانى عن الفعل حين يتعلق الامر بمصالحها فالولايات المتحدة تنفذ اليوم اشكالا من الحظر التجاري ضد ما لا يقل عن اربعين دولة من دون أي سند دولي في ذلك.

العولمة اذا هي جدل مستمر بين التطورات التقنية والاقتصادية والاجتماعية من جهة وبين الإنسان ممثلا في المجتمعات والدول وسياساتها من جهة اخرى، وارادة الإنسان تؤثر تأثيرا كثيرا ما يكون حاسما في اي اتجاه تأخذه العولمة.

التحدي اذا امام مجتمع القرن الحادي والعشرين يكمن في كيفية تشكيل عالمنا لينسجم اكثر مع ارادة الإنسانية في العدل والمساواة والديمقراطية. وتحقيق هذه الغاية لن يتم بغير صراع كما أثبتت تجارب التاريخ فتحقيق الديمقراطية في المجتمعات الصناعية وغيرها لم يتم بغير صراع عنيف دافع فيه المتنفذون من الملوك والنبلاء عن سلطاتهم وامتيازاتهم شبرا بشبر، حتى تحقق قيام البرلمانات المنتخبة، وحتى اصبح حق الانتخاب متاحا للجميع لتحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية ايضا تم بعد صراع طويل قادته النقابات وبعض الاحزاب اضافة إلى بعض وسائل الاعلام والجمعيات الطوعية، وهنا ايضا دافع الرأسماليون ومعهم الدولة عن امتيازاتهم شبرا شبرا حتى بدأت ملامح دولة الرفاه الحديثة تبرز في مرحلة ما بعد الحرب الثانية.

ظروف العولمة تتيح ايضا وسائل جديدة لخلق ائتلافات قوية تجمع الغالبية المتضررة من الاتجاهات السائدة المتجهة لصوغ عالم مصمم خصيصا بحسب مصالح اهل الهيمنة القلة، وتوحد جهودهم للنضال من اجل استغلال الامكانات التي تتيحها العولمة لخلق عالم افضل للجميع. فالعولمة، وخصوصا في جانبها الاعلامي، هي عصر قوة الضعفاء. فيكفي ان يبث التلفزيون مشاهد المجاعات في اثيوبيا والصومال، أو يصعد عمليات الاضطهاد في كوسفو وتيمور الشرقية، حتى يجبر العالم كله على التحرك. العولمة اذا طريق ذو اتجاهين، وليست مبررا ساذجا لاضفاء الشرعية على سياسات متعمدة تقدم على انها قدر مقدور لا مفر منه

العدد 328 - الأربعاء 30 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً