نتذكر أرواحا قبل أن نتذكر وجوهاً كانت بيننا تشاركنا الوقت والفرح والضجر والسهر والخبز وتفاصيل الحياة بكل مباهجها وفواجعها في الوقت نفسه. حين ترحل عنا نكاد نتحول إلى شظايا أول الأمر؛ لكن سرعان ما نلملم أنفسنا احتراماً لذواتنا ولتلك الأرواح والوجوه واحتراماً لوقتها وفرحها وسهرها وخبزها الذي تقاسمناه بملح أو دون ملح.
كثيراً ما ننسى أن الحياة معبر إلى حياة أخرى. حياة لن نكون جزءاً من تفاصيلها البيضاء والمفرحة والباذخة في نعمها ونعيمها إلا بمحصلات ونتائج نخرج بها من حصتنا في هذه الحياة. حصة إعمار أو حصة خراب. حصة تأليف أو حصة تفريق حصة بحار من الحب أو بحار من الغل. محصلات هي القادرة على تتويجنا بالخلود الذي نستحقه أو الحرمان منه تبعاً لثقل ووزن تلك المحصلات والنتائج.
كانت الأرواح والوجوه تلك - ومازالت - حصانتنا من الخيبة والنكران والاستسلام إلى العراء. كانت حضناً وحصناً في الوقت نفسه. حضناً في سهولة احتوائنا
وتجنيبنا والحيلولة دون القذف بنا أو تسليمنا إلى كل من يملك موهبة الاستباحة. وحصناً يحول دون بغينا على أنفسنا ساعة أو لحظة يأس.
مع تلك الأرواح والوجوه لا شعور إلا بالشفيف والجميل والرحب. لا نتذكر تلك الأرواح والوجوه فحسب. إنها جزء من كل ما يستمر فينا ويكبر ويتواصل ويتمدد من تلك الشفافية وحساسيتنا تجاه شعور كل ما حولنا.
الذاكرة طاردة وجاذبة في الوقت نفسه. طاردة لمن أساء إليها بالتفاصيل الجارحة؛ لكن التفاصيل تلك تظل أرشيفاً يمكن استدعاؤه كلما مرت هيئة أو صوت أو ذكر أو ملمح أو شاهدُ طرفِه أو صاحبه. ما تطرده الذاكرة من صور أو سلوكات أشخاص يظل مقيماً في تفاصيل ممارساتهم وما اقترفوه. تلك هي أرواح ووجوه أيضاً؛ لكنها في النقيض تذهب وفي الجارح والمعتم تقيم وهي للطرد مهيأة. وتظل الذاكرة جاذبة بقدرة تلك الأرواح والوجوه وفعلها على الاستيطان أو الإقامة ليس في الذاكرة فحسب؛ بل بالتحامها بأرواحنا وإن نأى أحدنا عن الآخر. النأي لا ينفي الإقامة؛ على العكس إنه يعمقها ويؤكدها ويدفع بها إلى مزيد من التثبيت والتوغل.
لا شيء يفصلنا عن الأرواح والوجوه التي نحبها ونأت سوى أنها برسم الغياب المؤقت. المؤقت بانشغالنا بأنفسنا تارة وبالعالم تارة أخرى؛ لكنها تظل عالمنا الأثير والخاص والمحبب إلى أرواحنا؛ وخصوصاً في ظل تقلبات وتلونات تفرضها الأمزجة لا الأرواح.
نقيم في أنفسنا وفي حركة العالم من حولنا؛ لكننا في نهاية المطاف نظل مشدودين إلى الأرواح والوجوه التي أضفت علينا من المعاني العميقة عبر معانيها الأعمق الشيء الكثير. منحتنا القدرة على أن نكون أوفياء لقيمتها بأن نترك لها حرية الإقامة في أرواحنا وأمكنتنا وأوقاتنا وتفاصيلنا؛ لا بالخيار وحده؛ بل بالشعور بضرورة تلك الإقامة وأهميتها لأرواحنا التي لن تنجو من رحلة العذاب والصدمات والخيبات بعيداً عنها. تمنحنا القدرة على أن نسخر من كل ذلك ونذهب في المواجهة متسلحين بتلك السخرية من جهة، ومدد تلك الأرواح والوجوه من جهة أخرى. تؤذينا الأشياء البسيطة وأتفه الكلمات وأضعف المخلوقات حين لا نكون أوفياء بررة لتلك الأرواح والوجوه.
بتلك الأرواح والوجوه التي غادرتْنا من دون أن تستأذن ومن دون أن تلقي تحيتها الأخيرة علينا كما يجب؛ فقط تحية وليس أسمى من ذلك في هيئة عناق! وبما ينجينا من الغصص. غصص أن نعتذر عما لم نعتذر عنه. أن نكاشف ما لم نجرؤ على مكاشفته. أن نبوح بما كابرنا في التمنع عن البوح به. نشعر بوحشة تكاد تعصف بأرواحنا؛ لولا عهد أن نسهر على أرواح ووجوه من أحببنا وفي المحصلة النهائية السهر على أرواحنا. لا انفصال في الأمر.
أبديتنا الرمزية والفعلية في قدرتنا على الوفاء والإبقاء على أبدية تلك الأرواح والوجوه بفعلها الجميل وأثرها الأجمل الذي يتجاوز ارتباطنا بها ليمتد إلى كل من عرفها وشعر بالانشداد إليها.
نعم، تنحرنا الوحشة كل يوم لكن أبسط الوفاء لتلك الأرواح والوجوه أن نهم بتلك الوحشة نحراً لها قبل أن تغتال أرواح ووجوه من نحب وهي في جنة النأي
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3278 - الأحد 28 أغسطس 2011م الموافق 28 رمضان 1432هـ
أبو أحمد
فقد الاحبة غربة
فليصبروا ..... وليحتسبوا
كيف لي أن أنساكم يا من سكنتم في فوائدي
كيف لي أن أنساكم وأنتم سر حياتي ووجودي
كيف لي أن أنساكم وأرواحكم ترفرف بجانبي
عظم لله أجرك يا سيدتي ونسال الله تعالي أن يغفر لزوجك ويرحمه ويسكنه فسيح جناته ويلهمكم الصبر والسلوان
مقال رائع
مقال رائع معبر عن رحيل عزيز الى عزيز مقتدر-فانا لله وإنا إليه راجعون"
من القائل ؟
كلمة رائعة دائما أذكرها ولكني لا اعرف مصدرها : أذكروني عند الرحيل ؟؟
آلم الفراق
من أقسى المشاعر على قلوبنـــا ... فهـو يأخذ منــا الكثير من الوجوه ... والاشياء ... ويمنحنا الكثير من المشاعر المؤلمه .
فهــو يجعل الفراغ يستوطن الكثير من مساحات اعماقنا
ويجعل من ارواحنا فريسه للوحده .
فمن تحب عنك غائبون
ومن تحب عنك بعيدون
فارقتنا وجوههم
غابت عنا أحاديثهم
غادرتنا تفاصيلهم
نفتقدهم .... ويسكننا حنين لرؤياهم .... وتشتاق أعيننا وقلوبنا لتفاصيل نود أن نعيشها معهم .