قبل أسبوع، وفي مثل هذا اليوم (الأحد) شُيِّع جثمان المرحوم الشاب حسين الأمير... مازالت صورته ماثلة أمامي، إذ تعود بي الذاكرة إلى منتصف التسعينيات، وهو ماسك بيد شقيقه عصام، يمشيان بأناقتهما المعهودة تارة في بهو الجامعة، وتارة أخرى يجلسان في استراحة الطلاب بكلية الآداب في جامعة البحرين، والتي كانت بالنسبة إليهما بمثابة محطة سريعة لتداول بعض القضايا اللغوية والأدبية مع زملاء الدراسة.
الأمير، وهو أب لولد وبنت (قيس ورنْد)، استطاع بإرادته الحديدية تخطي الإعاقة البصرية، فقد كان متفوقاً في الثانوية العامة، ليلتحق بعدها بقسم اللغة العربية في جامعة البحرين، ويعمل مدرساً لمادة الحاسوب في المعهد البحريني السعودي للمكفوفين.
كل من جالسه ـ ولو للحظات ـ يكتشف مدى ولعه وعشقه للثقافة والشعر، فقد أنشأ حساباً خاصاً به على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، سبق ذلك تدشينه مدونة إلكترونية أطلق عليها (ضفاف قلم)، لينشر فيها أشعاره ومقالاته منذ العام 2008م.
كان الأمير رئيساً للعلاقات العامة والإعلام في جمعية الصداقة للمكفوفين، بمعنى آخر، أنه كان جزءاً من السلطة الخامسة (مؤسسات المجتمع المدني)، إلى جانب مشاركاته الأدبية الفعالة في المنتديات والأمسيات كاتحاد أدباء وكتاب البحرين ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي، وتوظيف هذه القدرات الأدبية للتحكيم في مهرجانات الأناشيد الإسلامية داخل مملكة البحرين وخارجها، بفضل تشجيع والدته له منذ الطفولة، ومن ثم زوجته الشاعرة سوسن دهنيم، والتي كانت حريصة على إشراكه في الأنشطة المجتمعية المتنوعة.
السمة البارزة في شخصية الأمير (التفكير الإيجابي)، فعندما كان يستعيد ذاكرته في مرحلة الطفولة يذكر لنا كيف كان يواجه هو وشقيقه بروح ومعنويات عالية إساءات الأطفال في القرية، سواءً برميهما بالحجر أو التنابز بالألقاب مثل (الأعمى)، ليتوصل إلى قناعة مفادها أن من الخطأ الكبير التعامل مع المعاق وفق منطق العطف والشفقة!
التحصيل الدراسي كان هو الآخر الشغل الشاغل للأمير، فقد استطاع بعصاميته أن ينتقل من مرحلة التعليم إلى مرحلة التعلُّم، وهي النقطة المحورية التي ترتكز عليها حالياً كافة المشاريع التطويرية في المشروع الوطني لتطوير التعليم والتدريب في مملكة البحرين، لينهي بذلك المرحلة الجامعية رغم كل المعوقات التي واجهته منذ البداية في حصوله على بعثة دراسية، بعدما طالب بحقه كإنسان من وزير التربية والتعليم آنذاك، خصوصاً وأنه تخرّج من الثانوية العامة بمعدل 94 في المئة.
تمثلت المعوقات التي واجهت الأمير في تسجيل المحاضرات بالجامعة بشكل خفي ومن دون علم الأستاذ المحاضر، لأن تسجيل المحاضرة بالنسبة إلى الكفيف أمر مهم، فلا يملك خياراً آخر، وتارةً أخرى كان يعتمد على الكتاب، إذا كان المحاضر يعتمد على تلك الاستراتيجية في التدريس، فيوفر عليه عناء التسجيل على الأشرطة، أو الاعتماد على تلخيص بعض زملائه.
فضَّل الأمير أن يعيش في قمة الهرم المعرفي لا على السفوح، لأن أدنى الحقوق المعرفية للمكفوفين تتمثل في تعلُّم القراءة والكتابة فقط، وأعلاها حقهم في المساواة العادلة التي تضمن لهم النمو السليم جنباً إلى جنب مع الطلبة المبصرين، لنيل أعلى المراتب العلمية والأكاديمية، اعتماداً على الذات، شريطة أن تتوافر لهم كافة الاحتياجات والمصادر التي يحتاجونها، لنضمن مستقبلاً نجاح مشروع (الدمج)، المطروح حالياً في الاستراتيجية الوطنية للإعاقة التي أطلقتها وزارة حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
وإيماناً من الأمير بحق المكفوفين في التدريب المهني في مراكز متخصصة تلبي احتياجات المكفوفين وضعاف البصر، من خلال تزويدها بالأجهزة والأدوات التعليمية والدعم المالي اللازم لهم خلال فترة التدريب، سواءً من الموازنة العامة للدولة أو من القطاع الخاص، وحقهم في الحصول على الوظيفة التي تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية كحق من حقوق الإنسان، فقد اهتم بمجال تدريب المكفوفين والمدرسين (المبصرين) على استخدام الإنترنت والبرامج الناطقة للحواسيب، كما كان يقدِّم المحاضرات التوعوية لتشجيع الطلبة المكفوفين على الاندماج في المدارس العامة، وتشجيع إدارات المدارس على تقبّل اندماجهم فيها، إلى جانب تقديمه للمحاضرات التي تشجع الباحثين عن عمل على مواصلة البحث، ضمن برنامج الجمعية الأهلية لدعم التعليم والتدريب.
حق الاستمتاع بوقت الفراغ حق من حقوق الإنسان، لذا فقد حرص الأمير على ممارسة الأنشطة والهوايات والفنون، وأروع ما شدَّ انتباهي في هذا السياق ما كتبه الصحافي حسين مرهون بعنوان «دهنيم تقرأ رسالة العرش، وأميرها يردُّ بدوزنة الموسيقى»، بمناسبة تدشين ديوان الشاعرة سوسن دهنيم «وكان عرشه على الماء» في 25 مايو/ أيار 2008م، والذي تزامن مع عيد ميلاد زوجها حسين الأمير.
وعلى مستوى الحق في الاستفادة من خدمات المكتبات العامة، فقد ذكر الأمير أنه قرأ أكثر من 90 في المئة من الكتب المطبوعة بلغة برايل في معهد المكفوفين ومكتبة جمعية الصداقة للمكفوفين، وهذا دليل على اهتمامه بالقراءة من ناحية أنها تعدُّ ضرورة إنسانية أكثر من كونها هواية.
عما قريب سنتذكر الأمير، مع بدء تنفيذ مشروع (المعلم المساند)، مطلع العام الدراسي المقبل 2011 ـ 2012م، والذي أعلنت عنه إدارة التربية الخاصة بوزارة التربية والتعليم، والذي من المؤمل أن يقوم بإعادة صياغة المفاهيم الاجتماعية التربوية الخاصة بالتعامل مع أبناء شريحة المكفوفين، وتنمية الوعي الثقافي والحقوقي، استناداً إلى مواثيق حقوق الإنسان وحقوق ذوي الإعاقات في مساواتهم مع الآخرين، استناداً لما ورد في المادة (5) من قانون رقم 27 لسنة 2005م: «توجَّه إمكانات الوزارة البشرية ومواردها المادية لتحقيق أهداف السياسة التعليمية والتوجهات المستقبلية لتطوير التعليم، وتباشر مسئولياتها على الوجه التالي: تنويع الفرص التعليمية وفقاً للاحتياجات الفردية المتنوعة للطلبة، ورعاية الطلبة الموهوبين والمتفوقين وإثراء خبراتهم، والاهتمام بالمتأخرين دراسياً، وذوي الاحتياجات الخاصة بمتابعة تقدّمهم ودمج القادرين منهم في التعليم».
وعلاوة على ذلك، فقد صادق عاهل البلاد مؤخراً على القانون رقم 22 لسنة 2011 بشأن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وهي أول اتفاقية لحقوق الإنسان المعوق في القرن الحادي والعشرين، وأول صك ملزم قانوناً يوفر الحماية الشاملة للأشخاص ذوي الإعاقة، ويحقق حصولهم على الخدمات كبقية أفراد المجتمع، وحريتهم في تقرير خياراتهم بأنفسهم واستقلاليتهم وعدم تمييز المجتمع لهم، واحترام الفوارق وقبولهم كجزء من التنوع البشري والطبيعة البشرية، وتكافؤ الفرص والمساواة واحترام القدرات المتطورة للأطفال ذوي الإعاقة وحقهم في الحفاظ على هويتهم، لكي يضمنوا الحصول على أفضل الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والإسكانية.
ربما تحتاج الصورة إلى قراءة أكثر دقة، في استخدام لفظ «ذوي الإعاقة» بدلاً من «ذوي الاحتياجات الخاصة»، بدليل ما ورد في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وما تمَّ إقراره مؤخراً بموافقة الجمعيات الأهلية ذات الصلة في المحور الحقوقي (حق المعاق) في حوار التوافق الوطني.
من ضمن الرسائل التي خاطب فيها الأمير أقرانه من ذوي الإعاقة: لا تصابوا بالإحراج من إعاقتكم، ولابد أن تعيشوا واقعكم بشكل طبيعي.
ليس من الإنصاف اختزال العزاء في زوجته وشريكة دربه سوسن وحدها ـ وإن كانت أهلاً لذلك ـ لأن كل ذي بصيرة سيفقد الأمير اليوم
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3270 - السبت 20 أغسطس 2011م الموافق 20 رمضان 1432هـ
شكرا لك
شكرا لك أستاذ فاضل لم اكن لأعرف شيئامن هذه التفاصيل عن المرحوم حسين. وأن كنت أعرف الشاعرة الجميلة سوسن فنحن زملاء في أسرة الأدباء والكتاب يجمعنا الحضور والمشاركة في الفعاليات الثقافية ، احيانا اراها بصحبته وأحيانا بدونه. فاعلة ومتفاعلة مع المشهد الثقافي البحريني والان في تداخل جميل بين الصحافة والثقافة عبر جريدة الوسط. اللهم ادخله فسيح جناتك والهمك الله ياسوسن الصبر والسلوان (نعيمة)
كل ابن انثى وان طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
رحمك الله يا أمير السوسن .. ويا رسول العشق .. والضياء .. ......... .. حين يزرعون النور في العتمات .. فلم تكن مجرد عابر سبيل ..
صديق صدوق
لا يسعني إلا أن أدعو الله لك بالمعرفة والرحمة فلقد عرفتك سنين طوال محب لغيرك ناصحا له في أيام الدراسة الجامعية وما بعدها . فسلامي لك ودعائي لأهلك بالصبر والسلوان . إنا لله وإنا إليه راجعون
.
إلى النور
مقال جميل ورائع
اشكرك أخي وزميلي العزيز الاستاذ فاضل على هذا المقال الرائع الذي سلطت فيه على جوانب مضيئة من شخصية اخينا المرحوم حسين الامير فبورك فيك ونسأل الله له الرحمة والغفران ويحشره مع محمد وأهل بيته الأبرار إنه سميع مجيب