فرنسا ومِصر مرة أخرى. الأولى بلدٌ أوروبي، والثانية بلدٌ إفريقي. جرى في الثانية مثلما جَرَى في الأولى أو كاد أن يكون مثله. ثورة. فرنسا في العام 1789، ومِصر في العام 2011. حَدَثان يفصلهما عن بعضهما 222 عاماً، لكن الوَهَج السياسي هو ذاته في جماهيريته. قاربتُ بين الحدثيْن في ظروف ما قبل الثورة، حتى بان التماثل بينهما إلى حد كبير. تساءلت: هل سيكون تأثير التغيير الذي جَرَى في مصر على محيطه العربي، مثلما كان لفرنسا الثورة على محيطها الأوروبي؟ تركت الإجابة حينها إلى هذا الوقت؛ لكي أستفيض فيه، وأخلص إلى نتيجة مُحددة.
عندما اندلعت الثورة الفرنسية، بدا أن الثوَّار يملِكون من نهَم التغيير ما أقلق العروش المحافظة في القارة الأوروبية، وخصوصًا في قطفتها الأولى التي كانت مكنوزة بالزَّخَم الثوري. وبعيداً عن راديكالية روبسبيير وسان جوست، فإن الثورة في حينها قد طرحت شعار تحرير أوروبا من الطغيان، وتأسيس عقد سياسي جديد يقوم على الديمقراطية والحرية. وكان للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي طرحته الثورة كبير الأثر في إلغاء القيم الاجتماعية والسياسية التي كانت تكبِّل أوروبا وشعوبها، حتى أصبحت فرنسا هوى العديد من علماء وفناني أوروبا كووردزورث وبليك وكوليريدج وروبرت بيرنز وجوزيف برستلي وهيردر وفيخته وهيغل وغيرهم.
لقد وصل التأثير الثوري الفرنسي إلى الأراضي المنخفضة، وسويسرا وإيطاليا وايرلندا وبولندا، حتى أصبح دستور الإصلاح البولندي في العام 1791 أول دستور أوروبي يتأثر بالثورة الفرنسية. وفي هنغاريا، فقد طالبت غومور بإلغاء الرقابة؛ لأنها تتعارض والعقد الاجتماعي الذي وضعه جاك روسو، وكذلك الحال بالنسبة لبلجيكا التي قامت فيها الثورة بالتزامن مع الثورة الفرنسية. لقد كانت أوروبا في أغلبها قد تأثرت بما جرى في فرنسا، التي كانت قد تدخلت بشكل مباشر في أحيان معينة لإعانة موجات التغيير في بعض الدول الأوروبية.
اشتعلت الثورة في إسبانيا ونابولي (1820) واليونان (1821)، وتحررت كولومبيا الكبرى وبلجيكا والجزء الأكبر من امبراطورية الهابسبيرغ وسويسرا (1847) والدول الألمانية، وتأثرت الدنمارك ورومانيا وايرلندا، وتحرر الجزء الغربي من الراين تمامًا من الرجعية الأوروبية (راجع عصر الثورة لهوبزباوم). بل الأكثر، فقد كان هذا التأثير يسير وكأنه لعبة الدومينو، يقف في منطقة ويستمر في أخرى، ثم يُعاود الرجوع مرة أخرى، لتغذية المناطق الممانعة للمد الثوري من جديد لتتغير الأوضاع مرة أخرى.
هنا، لا أود الاستفاضة أكثر فيما قامت به الثورة الفرنسية في محيطها الأوروبي، بقدر ما أروم المقاربة بينها وبين الحدث المصري. الحقيقة، هي أن الثورة المصرية تبدو من أكثر الثورات نعومة، مقارنة مع الثورات الحمراء، التي عادة ما تخلف دمًا غزيرًا. كما أنها الأكثر انضباطاً بالمقارنة مع نفوس المصريين المليونية، وأيضًا بالنسبة لتاريخ توقف مسار الجمهورية في ذلك البلد. كما أن الثورة المصرية، كانت من أكثر الثورات حرصًا على جعل التغيير ينحصر في طربوش النظام وجزء من حواف بدلته الرسمية والمتمثلة في بعض شخوص الحزب الوطني الحاكم، وبعض أصحاب الأعمال، الذين تورطوا في قضايا فساد مالي مع رموزه في السلطة.
بقِي الجيش المصري في مكانه، كما أن ثكناته وتراتبيته العسكرية لم تتصدع ولم تمسْ، بل إن الجيش كان هو ذراع التغيير القوية، ورائد الحملة التي كَسَرَت مقاومة نظام التوريث في مصر، بعكس الثورة في إيران، التي (وعلى رغم وقوف الجيش مع الثورة) فإن الحكم الثوري الجديد قام بالتخلص من كبار الضباط من رتبة مقدم فما فوق، بعد الانتصار، وكذلك الحال بالنسبة للثورة الفرنسية، التي أزاحت كبار وألمع ضباط البحرية لديها بحجة أنهم من أبناء الطبقة الأرستقراطية الفرنسية، باستثناء البعض، كالجنرال المخضرم لافييت مثلاً.
سقف الثورة المصرية لم يكن راديكاليًا، ولا متماشيًا مع أصول التغيير الجذري مثل الذي كان يجري في بعض الدول. كانت الرؤية الثورية المصرية تقوم على إزاحة الطبقة الأوليغارية التي كانت تحكم بالدرجة الأولى، ثم الاستمرار بالعربة ذاتها التي قادت الدولة المصرية، مع تغييرات هي أشبه بالتحسينات لا أكثر، على رغم أن عنوان الجمهورية في مصر قد تعرض لرضات دستورية جسيمة، وممارسات سياسية خاطئة منذ سقوط الملكية بعد ثورة يوليو/ تموز ولغاية يناير/ كانون الثاني 2011، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع تداول السلطة، وتمثيل الشرائح المجتمعية في الحكم.
ولأنها كانت بذلك المنسوب، فإنها لم تقم بإنتاج أدبيات سياسية جديدة، ولا أفهام خاصة بطريقة الحكم (باستثناء محاكمة الرئيس) كما فعلت الثورة الفرنسية، فيما يتعلق بالسياسات الليبرالية والراديكالية أو الديمقراطية والنظم الدستورية، بل حتى القومية، بل إنها أعادت فقط إنتاج القوى السياسية ذاتها الموجودة في الداخل والتي تحمل البرامج السياسية الكلاسيكية نفسها، ونقلتها من حالة الضمور إلى البروز والعلنية لا غير. هذا الأمر هو ما جعل البعض يُطلق عليه صفة الثورة البيضاء، ليس في قِلة الدم المُراق فيها فقط، وإنما أيضًا في محدودية التغيير الذي طال بنية النظام المهترئ.
بالتأكيد، فقد انعكس ذلك التغيير المحدود على التأثير على الجوار، جاعلاً منه تأثيرًا محدودًا. فكل مُراقب للخطاب السياسي المصري بعد ثورة 25 يناير، سيلاحظ مدى حرص السياسيين المصريين على جعل الحدث المصري ضمن الحدود الجغرافية لمصر، ماعدا بعض التصريحات الخجولة التي كانت تطلق من هنا وهناك، بل الأكثر من ذلك، قيام الدبلوماسية المصرية بجولات مكوكية حثيثة للعديد من الدول العربية، لتطمينها على مسار السياسة الخارجية لمصر ما بعد التغيير، والابتعاد عن جميع القضايا التي يُمكن أن تترتب عليها أزمة دبلوماسية بين مصر ودولة عربية أخرى تتهم فيها مصر بالتدخل في شئون الغير الداخلية.
وعلى رغم وجود أصوات مصرية شعبية من داخل المسطرة الحزبية أو الشبابية قد أبدت تعاطفاً مع ما يجري في العديد من الدول العربية من انتفاضات وحركات مطلبية، فإن ذلك التأييد، لم يكن يتسق مع خطاب الطبقة التي تسلمت الحكم بعد الثورة، وهو ما زاد من ضعف التأثير على الخارج. هنا، يظهر أمر ارتباط سقف الثورة الداخلي بتأثيراتها على الخارج. فإذا كان سقفاً راديكالياً، فإن تأثيرها يكون أكثر مدى مما لو كان ذا سقف معتدل. في كل الأحوال، فليس أحد من قادتها ولا رجالاتها سوى أصحابها، الذين نتمنى لهم ولكل المصريين الخير والتوفيق، ولأرض مصر العزيزة كل تقدم وازدهار ونمو
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3269 - الجمعة 19 أغسطس 2011م الموافق 19 رمضان 1432هـ
محدودية التأثير و تداعيات التغيير
يظهر أمر ارتباط سقف الثورة الداخلي بتأثيراتها على الخارج. فإذا كان سقفاً راديكالياً، فإن تأثيرها يكون أكثر مدى مما لو كان ذا سقف معتدل.
هل يجب ان يكون التغيير راديكاليا ليوجب التغيير في المحيط الخارجي؟ ام ان التغيير الحاصل في العالم اليوم يجعل حتى التغيير الداخلي المحدود ملهما لتغيير اكثر راديكالية و اقوى تأثيرا في بقعة اخرى منه؟
الخلاصة
فقد انعكس ذلك التغيير المحدود على التأثير على الجوار، جاعلاً منه تأثيرًا محدودًا