العدد 3264 - الأحد 14 أغسطس 2011م الموافق 14 رمضان 1432هـ

إدوارد سعيد: المسافر والمنفى (2 - 3)

ستيفن هاو comments [at] alwasatnews.com

أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا

تزايدت شهرة سعيد كناقد أدبي أولاً، ثم كناقد سياسي وثقافي ثانياً، في أميركا، وبعدئذٍ على نطاق عالمي. والانطلاقة الاختراقية بدأت أولاً من كتابه «بدايات» حيث كان كتابه «جوزيف كونراد»، 1966 مغموراً نسبياً، ثم تعززت بصفة حاسمة سنة 1978 مع «الاستشراق». وهذا الكتاب دشن نوعاً من ثلاثية حول التمثيل الغربي للشرق الأوسط: فكان العملان اللاحقان أضيق تركيزاً وأوثق صلة بالسياسة: «مسألة فلسطين»، 1980، و«تغطية الإسلام»، 1981.

كتابه «العالم، النص الناقد» صدر سنة 1984، وضمّ مقالات العديد من السنوات حول النظرية الأدبية، في حين أن سعيد واصل تقديم أفكاره حول «مستقبل النقد»، ولكن اهتماماته كانت تنتقل أكثر فأكثر بعيداً عن ذلك الحقل، فتقترب من المسائل التاريخية والسياسية. وفي العام 1986 نشر «بعد السماء الأخيرة»، وهو مقالة وجدانية حول الهوية الفلسطينية، تضمنت عناصر قوية من السيرة، وصاحبتها صور فوتوغرافية مرموقة من جان موهر.

كتاب من نوع مختلف تماماً صدر سنة 1991: «متتاليات موسيقية» كان التأمل الأكثر عمقاً حول اهتماماته الموسيقية التي شغلت حياته بأكملها. وفي غضون هذا كان يواصل نشر مقالات مسهبة حول موضوعات إمبريالية في عمل فنانين منوعين مثل جين أوستن، روديارد كبلنغ، جوزيبي فيردي، وألبير كامو. وكل ذلك أفضى إلى صدور كتابه الضخم «الثقافة والإمبريالية»، 1993.

وفيما بعد جمع معظم كتاباته عن سياسة الشرق الأوسط في «سياسة التجريد»، 1994، و«السلام ومظانه»، 1995، و«نهاية عملية السلام»، 2000 الكتاب الأول ضم العديد من المقالات المطولة التأملية إلى جانب القطع ذات الصلة بمناسبات محددة، والكتابان الثانيان ضمّا مقالاته السجالية التي نشرت إجمالاً بالعربية. «تمثيلات المثقف»، سنة 1994 أيضاً، كان حصيلة محاضرات رايث في إذاعة الـ BBC، واستجمع نتائج اهتمام آخر شغل حياة سعيد بأسرها. وفي العام 1999 صدر «خارج المكان»، مذكرات حياته الأولى والعائلية.

وفي نهاية العام 2000 ظهر «تأملات في المنفى»، الكتاب الذي جمع مقالاته ومراجعاته الأطول حجماً، الممتدة على ثلاثة عقود، والتي تتراوح بين الموضوعات الفلسفية الكثيفة، إلى تلك السجالية الشرسة، فضلاً عن الرثائية السيرية. وخلال الفترة 2001-2003 ظهر كتاب «القوة، السياسة، الثقافة»، وهو مجموعة حوارات معظمها يقوم على مسائل فكرية، حررتها صديقته وتلميذته السابقة غاوري فيسواناثان، إلى جانب كتاب حوارات أصغر حجماً من تحرير دافيد بارسميان، ومجلد عن التعاون والحوارات مع دانييل بارينبويم. والإصدار الرئيسي الأخير في حياة إدوارد كان كتاباً صغيراً بعنوان «فرويد وغير الأوروبي»، وهو نص محاضرة ألقيت في متحف فرويد في لندن.

وفي السنوات الأخيرة كانت في طور إعداد مجموعة أخرى من الكتابات السياسية، وكتاب عن الأوبرا، ودراسة لفكرة «الأسلوب المتأخر». وقال سعيد إنه ينوي كتابة دراسة شاملة عن «النزعة الإنسية Humanism في أميركا». وكان عدد من المقالات التي تتصل بمشاريع الأعمال هذه قد نشر، ونأمل أن أجزاء كبيرة منها بلغت طوراً متقدماً بما يكفي لنشرها بعد الوفاة.

ورغم صحته السيئة الصعبة، واصل سعيد الكتابة، والمحاضرة، والإذاعة، والسفر على نحو كثيف حتى آخر أيام حياته. والمنشورات الأخيرة كانت لاتزال تمزج بين الموضوعات الأدبية والثقافية وتلك السياسية التدخلية المباشرة، مثل معارضته الشرسة لأعمال حلف الناتو العسكرية في كوسوفو سنة 1999، وغزو العراق سنة 2003. (...)

المثقف الإنسي

كانت جاذبية سعيد، في نظر العديد من القراء، لا تدور حول الموضوعات المتعددة والآسرة التي عالجها فحسب، أو الشخصية التجديدية لمعظم عمله، بل حول الأسلوب أيضاً. ولقد ألح بتواضع على أن نثره الخاص لا يرتفع فوق مستوى فن المهنة: «لست فناناً»، قال ذات مرة. لكن معظم كتاباته ذات نظام أرقى لا سبيل إلى الشك فيه، حتى حين تكون فن مهنة «فقط».

كتاباه الأكثر ذاتية ووجداناً، «خارج المكان» و «بعد السماء الأخيرة»، يحققان لحظات من القوة البلاغية العظيمة، إلى جانب عواطف أخرى مشحونة، تذكر بالعديد من مقالاته الأقصر. وبالنسبة للمعجبين به، ثمة صفة العنصر المباغت غير المتوقع في عمله، وهو السمة التي تغيب بشكل محزن عن العالم الأكاديمي الروتيني.

وهكذا، فإن شهرته وتأثيره يدينان بالكثير إلى شخصه أيضاً، كما تتكشف أو تتجلى في كتاباته ونشاطاته العامة. وهذه الشخصية قد تبدو غضوبة، وفي بعض الأحيان متظاهرة بالتقوى، وغير واسعة الصدر للنقد بالتأكيد. وكما يعبر ناقد صديق هو و. ج. ت. ميتشل: بدا سعيد «متأرجحاً بين النبرة المهنية للعلامة هائل المعارف، المنشغل بلا كلل في غربلة التفاصيل اللانهائية للحوادث الاستعمارية المحددة، وصوت النبي الصارخ في البرية، المغترب حتى عن الجماعة التي ساعد في تكوينها».

ولكن بالتضافر مع سماته العديدة الأخرى - المرح، والجاذبية، وسعة المعرفة - فإن إدوارد سعيد الذي تفتح تدريجياً على مرأى من الناس عبر سنوات الكتابة المديدة، تحلى بصفة تظل أيضاً أكثر ندرة في صفوف الأكاديميين المخضرمين منها في صفوف معظم أنماط الشخصيات العامة الأخرى: كان يندر أن يبدو متبجّحاً، هذا إذا فعل في الأساس. عمله أعطى القارئ حسّاً مكثفاً ومتزايداً تماماً بالانخراط في نقاش مع رجل واسع المعرفة، عدواني أحياناً، ولكنه منفتح، وغالباً ما يبدو هشاً على نحو مباغت.

«بدايات»، العمل الأول الذي كان مؤثراً بالفعل، يمكن أن ينطوي على مشقة عند القراءة، فأسلوبه أكثر انضغاطاً، ومادة موضوعاته أكثر تجريدية وفلسفية من كل كتبه اللاحقة. كان سعيد آنذاك أحد الرواد في تطوير النظرية الأدبية كموضوع أكاديمي ذي وزن ثقيل في حد ذاته، و «بدايات» كثيف بإحالاته إلى مفكرين مثل نيتشة، كلود ليفي - شتراوس، رولان بارت، وقبل هؤلاء جميعاً جانباتيستا فيكو وميشيل فوكو. فيما بعد، وكما أوضح سعيد، انتقل متعمداً إلى أسلوب أكثر يسراً في الوصول إلى القارئ.

ومع ذلك، سرعان ما بدا واضحاً أن مقاربة سعيد ونواياه، كانت مختلفة على نحو جذري عن تلك الخاصة بمعظم منظري الأدب. وكما أشار هو نفسه لاحقاً، كان ما اكتشف حديثاً من حماس للنظرية خلال السبعينيات قد اعتبر، وعلى نطاق واسع، تمردياً ومرتبطاً، وإن على نحو فضفاض مع المرجل الراديكالي لسنة 1986، وما بعدها في الولايات المتحدة وفرنسا وسواها من الجامعات والمجتمعات الغربية. والحق، مع ذلك، أن عاقبة التيارات النظرية الجديدة في أميركا الشمالية سرعان ما اتضح أنها بعيدة تماماً عن أي التزام سياسي واضح. وفي الواقع، وكما اشتكى سعيد، تخلى معظم العمل النظري عن الوقائع الوجودية للحياة الإنسانية، وللسياسة، والمجتمعات، والأحداث».

حينذاك، في مقابلة تعود للعام 1976، كان يقول إنه إذ يشترك في الكثير من الاهتمامات النظرية لنقاد مثل: هارولد بلوم والتفكيكيين في جامعة ييل Yale Deconstructionists، فإنه في الآن ذاته يأسف لافتقارهم إلى حس الاهتمام بالمسائل التاريخية والسياسية... وتأثير بول دي مان، بصفة خاصة، أملى أسلوباً شكلانياً وتقنياً في القراءة «التفكيكية»، منفصلاً بحدة واضحة عن أي مشاغل سياسية أو اجتماعية (ولم يكشف إلا بعد وفاة ديمان سره السياسي الأسود، وماضيه كمتعاون نازي وكاتب معادٍ للسامية في بلجيكا سنوات الحرب).

وأوضح سعيد أنه، من جانبه، تحرِّكه بواعث المشاغل السياسية - الأخلاقية: «أعتقد أن ما يحركني أكثر من أي شيء هو الغضب من الظلم، وعدم التسامح إزاء القهر، وبعض الأفكار غير الأصيلة عن الحرية والمعرفة». وتجب، مع ذلك، ملاحظة أن كتاباته في الوقت الذي تقاطعت فيه بثبات مع هذه الأمور، ظل هو مصرّاً على أنه في دوره كأستاذ كان يتجنب أي دور سياسي أو نية للهداية.

وفي أفضل عمله كان يمزج حجة حول نص أدبي أو موسيقي، ومفهوماً عن وظيفية التمثيل الثقافي، ونظرة إلى التاريخ، وموقفاً سياسياً - أخلاقياً، في كل واحد مترابط بليغ. مجموعة معقدة من الأفكار كان التعبير عنها يجري في نثر ذي شفافية خادعة.

ولقد واصل انتسابه للتراث بشكل أوسع مما فعل معظم معاصريه التفكيكيين وما بعد البنيويين. واحتفظ بنظرة عالية إلى الوزن العلمي المحض للتراث الفلسفي، الأمر الذي واصل الحالة إليه، بعبارات تأكيدية، في عمله اللاحق، بما في ذلك «الاستشراق»، حتى وهو منخرط في نقد التراث بسبب تمركزه العرقي على الذات واقترانه بالتوسع الاستعماري.

والأمر الذي يلفت أكثر كان أن سعيد بقي إنسياً بمعنى مضطرب، ملتبس، وقوي معاً، وذلك في زمن كان فيه النموذج الفرنسي المناهض للإنسية هو المهيمن في صفوف النقاد الطليعيين، وكما ظل إلى أواخر التسعينيات في الواقع. وحتى حين، كان سعيد واقعاً تحت تأثير شديد من نظريات كهذه، وميشيل فوكو خصوصاً، في السبعينيات، فإنه حافظ على مسافة، بعيداً عنهم في هذا الاعتبار، واعتاد أن يصف نزعة مناهضة الإنسية عند فوكو ودريدا بنعوت مثل «عزلاء» و»طغيانية» و «عدمية». وفي مقالات أخرى، مثل تلك التي تتحدث عن ميرلو - بونتي، كان يبدي الحماس لشخصيات في الفكر الفرنسي تشدد على بداهة وملموسية التجربة المعاشة - أي أولئك الذين ظلوا إنسيين - في مواجهة بناة أنظمة فلسفية كبرى ولكنها تغريبية

العدد 3264 - الأحد 14 أغسطس 2011م الموافق 14 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً