العدد 3262 - الجمعة 12 أغسطس 2011م الموافق 12 رمضان 1432هـ

حين تسخر الديكتاتوريات من الديمقراطيات

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الديكتاتورية عدو أصيل للديمقراطية. فالأولى هي بمنزلة الدَّاء، والثانية بمنزلة الدواء. وعندما يُراد الاستشفاء من مرض ما، فإن الدواء المعطَى يكون مُضاداً للدَّاء بغرض تحديد موقعه، ثم القضاء عليه، أو الحد من انتشاره وتمكنه. ليس ذلك فقط، بل عليه أن يجتاز عدة نقاط تفتيش دقيقة داخل الجسم، وبالتحديد الكبد، التي تعتبر نقطة تفتيش كيميائية صارمة، لكي يصل ويخترق واحداً من الأغشية الخلوية فيزيد أو يُنقص وظيفة ما في جسم الإنسان.

إذاً، فمرضنا هو في الديكتاتورية، ودواؤنا في ضدها. اليوم نشاهِد العديد من أصناف الديكتاتوريات وأصناف أخرى من الديمقراطيات. أبدأ بالثانية لأنها الأسهل والأكثر وضوحاً، والأقل دجلاً. فقد توزَّعت أشكالها ما بين جمهوريات ينتخب فيها الناس الرئيس كلّ أربع سنوات، أو أنها جاءت على هيئة ممالِك دستورية تكون الصلاحيات التشريعية فيها للبرلمان والتنفيذية لرئاسة الوزراء، مع تفاصيل مُحددة تتعلق بالديمقراطيات المباشرة كما يجري في سويسرا، أو الديمقراطيات البرلمانية التي يتمّ فيها تفويض النواب كما يجري في أوروبا اليوم.

أما الحديث عن الديكتاتوريات فالأمر فيها غريب حقاً. فبعضهم، بات يتمثل بصور الديمقراطية لالتقاط الصور التذكارية فقط، لكنه بغريزة الديمقراطية. تُفتَتَح البرلمانات، فلا تجِد نواباً يُحاسبون الحكومة، ولا أعضاء يُراقبون الدولة، وإنما نواباً يُدافعون عن الحكومة أكثر من دفاع الحكومة عن نفسها. نوابٌ يجلسون كالتلاميذ ليُصفقوا بكل ما أوتوا من قوة عندما يدخل عليهم الرئيس، وبعضهم قد لا يتمالك نفسه من الفرحة فينهض من كرسيه حتى يكاد أن يطير، رافعاً قبضة يده إلى الأعلى، ومُنادياً بفداء نفسه للرئيس وعائلته وأبنائه.

ديكتاتوريات أخرى، استحسنت سيمفونية قوالب الشعوب الخاصة، أو الخصوصية التي تقبل تجارب الآخرين وكأنها إحدى فصائل الدَّم النادرة التي لا تقبل إلاَّ نفسها. فحين تطالبها شعوبها ببرلمان يُقال لهم إنكم لم تتمرّنوا بعد على لياقة العمل النيابي. وعندما تطالبها شعوبها بالسماح للأحزاب بأن تعمل في الحقل العام يُقال لهم: أنظروا إلى الدول التي نشطت فيها الأحزاب وكيف حلَّ بها الدمار. وعندما تتم المطالبة بحرية التعبير يُرَدّ عليهم بأنكم لم تتعوَّد بعد على حرية الكتابة والحديث في ظل ماخور الطائفية المقزِّز والخطير.

لكنهم نسَوا أن يقولوا إن أهل المدينة المنورة كانوا في شورى فيما بينهم قبل أربعة عشر قرناً من الآن. هذا إن حَسِبَ هؤلاء الحكام أنفسهم مسلمين. وتناسَوا أن يقولوا إن الناس في أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد كانوا ينتخبون، ولديهم برلمانهم، وأن الهند القديمة في القرن السادس قبل الميلاد كانت قد تجمهرت دولتها تحت اسم ماها جاناباداس، وأن فيشالي كانت أول جمهورية تعرفها البشرية، هذا إن حَسِبَ الحكام المستبدون أنهم بشر. وتناسوا أن يقولوا إن أوروبا والبلقان المكنوزة بالطوائف والإثنيات مليئة بالأحزاب ولديهم حرية تعبير وصحافة نشطة، وحركة ثقافية واسعة لكنها لم تتذابح كما يُروّج هؤلاء.

ديكتاتوريات أخرى، فضَّلت التكثير من عرض أزيائها ذات الوشاح الديمقراطي فقط، من دون تبديل لعظامها ودمها الأزرق، فأقامت البرلمانات العاقِرَة، وأنصاف الأحزاب، وأطلقت بعض المسلسلات التلفزيونية التي تقول غمزاً من الحديث عن مسئولين صغار يعملون تحت إمرة الحيتان الكبيرة، لتأكيد وجود حرية التعبير. أما البعض الآخر فقد، أرَاح نفسه بابتكار مفهوم جديد للحكم بعيداً عن المفاهيم العالمية المطبقة، يُبقيه في الحكم حتى يزوره الموت، على رغم أنه يدعى الحكم الجمهوري، والشعبي، ومنها ما قام به معمّر القذافي في كتابه الأخضر، فأسمى بلاده بالجماهيرية العربية الشعبية الاشتراكية العظمى، من دون أن تشمّ فيها أيّ شيء يمتّ إلى تلك الأوصاف بأيّة صلة.

اليوم تسخر حكومة القذافي وغيرها من الحكومات الديكتاتورية في العالم العربي والإسلامي من بريطانيا وهي تواجه أزمة الشغب في مدنها الرئيسية. فقبل أيام، نقلت وكالة الأنباء الليبية الرسمية عن أمين شئون الإعلام باللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي (وزارة الخارجية) خالد كعيم يقول إن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون «أصبح فاقداً للشرعية، وعليه الرحيل هو وحكومته بعد المظاهرات العارمة في بريطانيا الرافضة له ولحكومته، وخاصة بعد القمع العنيف ضد المشاركين في المظاهرات السلمية التي تشهدها المدن البريطانية»، مُطالباً المجتمع الدولي ومجلس الأمن «بعدم الوقوف مكتوفي الأيدي تجاه الاعتداء الصارخ على حقوق الشعب البريطاني»!.

ليس غريباً أن نقرأ هذا الكلام، إذا ما عرفنا أن جزءاً من سلوك الطغاة هو الاستهزاء بالناس، وتحقيرهم واستهجان عقولهم وتفكيرهم بكل الأساليب. إذ من التَّرف فعلاً التطرق إلى فروق الحال بين ليبيا وبين بريطانيا على المستويين السياسي والحقوقي، لكن يكفي لمثل هؤلاء الحكام أن يتذكروا أن الشرطة البريطانية (انجلترا) لا يُوجد لديها خراطيم مياه لتفريق المتظاهرين، واضطرت لاستجلابها من الخارج وبالتحديد من ايرلندا، والسبب في ذلك، هو أن بريطانيا ومنذ 180 عاماً دَرَجَت على استخدام ما يُسمّى بالقوة الدُنيا في التعامل مع المتظاهرين، فضلاً عن المطاط أو الرصاص الحي الذي يستهوي القذافي استخدامه بكثافة في مصراته والجبل الغربي والزنتان وبئر الغنم، أو الأسد في حماة وحمص ودير الزور وإدلب.

هذه قضايا لا تحتاج إلى ذكاء وقَّاد لكي تظهر على حقيقتها؛ فالأفكار العليا لابدّ لها من لغة عليا كما كان يقول المؤلف المسرحي اليوناني القديم أريستوفان، لكن الأفكار البالية والدنيا لا تحتاج أكثر مما نسمعه من هؤلاء

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3262 - الجمعة 12 أغسطس 2011م الموافق 12 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 11:51 ص

      الكواكبي يرى أن الفساد السياسى هو أصل الداء، وأن أى إصلاح قبل هذا سيذهب هباء،.... ام محمود

      وابنى الفقر، وبنتى البطالة، وعشيرتى الجهالة، ووطنى الخراب، أما دينى وشرفى وحياتى فالمال، المال، المال"، وهو بهذا يلخص تلخيصا وافيا لرؤيته لعلاقة الاستبداد بالمال
      يلى هذا فصل عن الاستبداد والأخلاق، وكيف أن الاستبداد يتسبب فى إضعاف وإفساد الأخلاق الحسنة، حيث يجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، ويجعله حاقدا على قومه فاقدا لحب وطنه ضعيف العلاقة بعائلته، لأنه ببساطة أصبح أسيرا للاستبداد فبفقده حريته فقد أخلاقه
      _
      _
      صحيح ان من سلوكيات المستبدين تحقير الناس والاستهزاء بهم واعتبارهم صفر على الشمال

    • زائر 8 | 11:46 ص

      من كتاب الكواكبي .. طباع الاستبداد ومصارع الاستعباد ... 2 ........ ام محمود

      ومحاربة العلم، فخلاصة الأمر أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان.
      الاستبداد والمجد خصص له فصل ليشرح كيف أن المستبد دائما ما يحيط نفسه بصغار الناس، فيرقيهم ويعليهم ويضعهم فى موضع غير موضعهم، فيحاربوا قدر استطاعتهم مدافعين عن الاستبداد، فلقد أعطاهم ما لا يستحقون من مجد وقيمة هم ليسوا أهلا لها.
      ثم ينتقل إلى علاقة الاستبداد والمال، ويبدأه بمقدمة شافية يقول فيها "الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال أنا الشر، وأبى الظلم، وأمى الإساءة، وأخى الغدر، وأختى المسكنة، وعمى الضر، وخالى الذل

    • زائر 7 | 11:40 ص

      من كتاب طباع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي ...... 1 .... ام محمود

      يبدأ الكتاب بعلاقة الاستبداد والدين، وكيف أن المستبدين فى التاريخ استخدموا الأديان لتوطيد استبدادهم حتى جاء الإسلام، وأقام دولته العادلة محاربا الظلم والاستبداد، ثم يبين ما يحدث الآن من ردة تاريخية، حيث عاد المستبد ليستخدم رجال الدين الإسلامى فى تمرير استبداده رغم أن الإسلام بعيد كل البعد عن هذا، بل ومحاربة هذا كان من أولوياته.
      ثم ينتقل ليشرح لنا علاقة الاستبداد بالعلم، وكيف أن المستبد لا يكره شيئا، ولا يخاف من أحد قدر العلم والمتعلمين، وخاصة فى علوم الفكر، ولهذا فهو يبذل كل جهده لنشر الجهل

    • زائر 6 | 11:34 ص

      ومن كتاب روح الثورات والثورة الفرنسية لجوستوف أيضا ....... ام محمود

      الثورة تعبر عادة عن الانقلابات السياسية مع أنه يقتضي تعرب هذه الكلمة عن جميع التحولات الفجائية للمعتقدات والأفكار والمذاهب
      تنشأ الثورة في الغالب عن عوامل عقلية كالقضاء علي ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملك يبغضه الشعب، ومع أن العقل هو أصل الثورة فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات لا بعد أن تتحول إلي عواطف، فإذا أمكن بالعقل إظهار ما يجب هدمه من المظالم وجب لتحريك الجماعات إفعام قلوبها بالآمال .
      الثورة مهما يكن مصدرها لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلي روح الجماعة،

    • زائر 5 | 11:22 ص

      من كتاب روح الجماعات للفيلسوف الفرنسي جوستوف لوبون .......... ام محمود

      الجماعات تحترم القوة ولا تتأثر بالصلاح إلا قليلاً لعدها الصلاح وجهاً من وجوه الضعف.
      الجماعات تميل إلي الطغاة الذين يهيمنون عليها بشدة ، ولهؤلاء الطغاة تقيم الجماعات أعلي التماثيل علي الدوام ، وإذا داست الجماعة أحد المستبدين الذين سقطوا فلأنه فقد سلطانه فدخل في زمرة الضعفاء
      نمط القيصر : يبهرهم بريش تاجه
      ويسخرهم لسطانه
      ويخيفهم بسيفه

    • زائر 4 | 11:03 ص

      نواب داخل البرلمان ولكن..

      أسف على نواب داخل البرلمان لتمثيل الشعب ولكن تعو تعو برو برو للاجندة الحكومة فاي خير ترجو من هؤلاء النواب المحترمين!!!

    • زائر 3 | 8:02 ص

      يدخل للبرلمان ولايؤمن به

      الادهى من كل ماطرحت أن هناك محاولات لتطبيق الديموقراطية في بلدنا مثلاً حين ما طالب الشارع في التسعينات بالبرلمان وحصل عليه دخله أناس لايؤمنون بالعمل الديموقراطي وقالو أن دخولنا هدفه سد الدرائع وتفويت الفرصة على المطالبين الحقيقين حتى لا يصلوا الى مأربهم التي يرااها لاتليق بالمسلميين بل هي مستوردة من بلاد الكفر
      فساعدالله قلبك يا شعب البحرين على هؤلاء

    • زائر 1 | 3:07 ص

      أحسنت..في الصميم

      استحسنت سيمفونية قوالب الشعوب الخاصة، أو الخصوصية التي تقبل تجارب الآخرين وكأنها إحدى فصائل الدَّم النادرة التي لا تقبل إلاَّ نفسها. فحين تطالبها شعوبها ببرلمان يُقال لهم إنكم لم تتمرّنوا بعد على لياقة العمل النيابي. وعندما تطالبها شعوبها بالسماح للأحزاب بأن تعمل في الحقل العام يُقال لهم: أنظروا إلى الدول التي نشطت فيها الأحزاب وكيف حلَّ بها الدمار. وعندما تتم المطالبة بحرية التعبير يُرَدّ عليهم بأنكم لم تتعوَّد بعد على حرية الكتابة والحديث في ظل ماخور الطائفية المقزِّز والخطير.

اقرأ ايضاً