حين كتب ماركس: «الفلاسفة قاموا فقط بتفسير العالم بشتى الطرق، المطلوب، مع ذلك، تغييره»، فإنه لم يكن يغمز من قناة الفلسفة فقط. كان أيضاً يقلل من شأن التفسير ذاته، وكأن التفكير كان مسألة خاملة بالقياس الى الفعل؛ إذ يصنع البشر الحقيقيون علامتهم في العالم. والحق أن فعل التأويل هو «فعل» دائماً، وهو أحياناً حدث حقيقي، وفي لحظات نادرة يكون نذير تبدلات ذات أثر عميق. ومكسيم رودنسون، الباحث المتميز في شئون العالم العربي والمسلم والذي توفي عن 89 سنة في مرسيليا بتاريخ 23 مايو/أيار، وجاك دريدا، فيلسوف التفكيك الذي توفي عن 74 سنة في باريس بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول، كانا اثنين من أبرز المفسرين الملهمين في عصرنا.
وللوهلة الأولى سيلوح أن القليل فقط يجمع بين رودنسون ودريدا. كان رودنسون دارساً في التاريخ الإسلامي، ودريدا في الفلسفة الغربية. كتب رودنسون ليميط اللثام عن أسرار عالم كان الأوروبيون يفهمونه بشكل باهت، ودريدا من أجل كشف التناقضات والتنافرات في مابدا الأكثر شفافية ضمن الفكر الغربي. وبوصفه مدير الدراسات في «الإثنوغرافيا التاريخية للشرق الأدنى» في «مدرسة الدراسات العالية» ذات السمعة الرفيعة في باريس، كان رودنسون وريث تراث البحث الاستشراقي على رغم خلافاته السياسية الحادة مع بعض ممارسيه. وعلى رغم أنه حظي بالاعجاب العالمي في حقل اختصاصه، فإن بالكاد كان يعرف خارجه. دريدا، على العكس، كان متألقاً خارجي النشاط اجتذب انشداد العالم الى فكرة لم يكن يفهمها الا قلة، وكان هو نفسه محترساً في شرحها. ومناخ الغموض الذي اكتنف التفكيك زاد من جاذبيته إذ أخذ «ينتثر»، بحسب الفعل المفضل عند دريدا، في حقول متباعدة بينها العمارة واللاهوت والنظرية السياسية وعلوم الموسيقى والتاريخ والسينما، وبالطبع النقد الأدبي حيث كان أكثر تأثيراً مما هو عليه في ميدان دريدا نفسه، والذي قاوم التفكيك وكأنه فيروس يقتحم القرص الصلب في كومبيوتر الفلسفة.
وحيث كان رودنسون عقلانياً متحمساً على طراز عصر الأنوار، فإن دريدا لم يتوقف عن مساءلة كونية العقل الغربي، وأظهر في بعض الأوقات قبسة انشداد الى التصوف اليهودي. وبينما كتب رودنسون نثراً بديعاً في وضوحه، فإن دريدا طور أسلوباً طافحاً بالاستعارة والمجاز والمفاوقات واللعب بالكلمات، حتى بلغ به الأمر درجة التهكم على الذات (كما في: «لهذا سنكون مشوشين، ولكن دون أن نسلم أنفسنا منهجياً للتشوش»).
وما كان لهما الا أن يكونا على خلاف بيّن في مقاربتهما للأفكار.
ومع ذلك كانت بينهما صلات عميقة. كلاهما كان يسارياً يهودياً كوزموبوليتياً صاغ مغامراته الفكرية، بل هويته ذاتها، ذلك النزوع الذي أسماه دريدا «شغف الكتابة»، والذي في رأيه كان يعرف «نوعاً من اليهودية» شتاتياً، جوَّاب دروب، ذاتي المساءلة، يضرب بجذوره في «الكتاب» أكثر من «الأرض»، وكان اسحق دويتشر سيصف الاثنين بـ «اليهوديين الا - يهوديين»، المتمردين على محظورات القبائلية الدينية. وكلاهما كان عائقاً للغة: رودنسون كان يتكلم 30 لغة، بما في ذلك العربية والعبرية والتركية والاثيوبية القديمة، ودريدا كتب عن الأدب والشعر بوفرة تشبه كتاباته عن الفلسفة، وكلاهما كان من ممارسي التفسير، متأثرين ولو عن بعد بتقاليد البحث التلمودي. وبوصفهما كاتبين ومواطنين، حاول كلاهما جسر الهوة - دون أن يسقط من الاعتبار الخلافات والتوترات، باسم ليبرالية ورعة - بين العرب واليهود، وبين تشكيلات الثقافة والسياسة العويصة التي نطلق عليها بتكاسل اسم «الشرق» و»الغرب». ونقد التمركز الاثني الغربي على الذات الذي ساهم رودنسون في نقده على نحو رائع سار يداً بيد مع نقد الميتافيزيقا الغربية التي اشتهر بها دريدا، كما اعترف الفيلسوف نفسه. مشاريعهما كانت جزءاً من تذليل للغرب آن أوانه منذ زمن بعيد، في عصر التحرر من الاستعمار، وهو التذليل الذي قوى ركائز عصر الأنوار عن طريق رفعه الى مصاف قيمه الكونية العليا ذاتها.
«مكسيم رودنسون مات، لكن عمله لم يمت»، يكتب المؤرخ الجزائري محمد حربي في مرثية نشرتها صحيفة «لوموند». وبالفعل، إذا كان الفرنسيون قد اتبعوا سياسة متوازنة وبعيدة النظر في الشرق الأوسط، فهذا يعود جزئياً إلى أن رجالاً من أمثال جاك شيراك، ودومنيك دوفيلبان، استمعوا إلى الحكمة الصائبة عند رودنسون وحوارييه من أمثال جيل كيبل، وأوليفييه روا، بدل اقتفاء التأكيدات القاطعة عند فؤاد عجمي وبرنارد لويس.
ولد رودنسون سنة 1915 في مرسيليا لأسرة عمالية من المهاجرين الروس. البولونيين. كان أهل رودنسون شيوعيين، والتحق هو أيضاً بالحزب في يفاعته. غير أن روسيا الثورية، مسقط رأس ذويه، لم تكن هي التي شدت مخيلته، بل الشرق الأوسط. وبعد الدراسة في «مدرسة اللغات الشرقية» في باريس، قبل رودنسون وظيفة في المعهد الفرنسي بدمشق، على سبيل الملجأ من اللهيب المتعاظم لموجة العداء للسامية في فرنسا 1940. بعد ثمانية أعوام عاد الى فرنسا يتيماً، حيث جرى ترحيل ذويه الى أوشفيتز على يد سلطات حكومة فيشي.
لكن مقتل ذويه لم يقرب رودنسون من اعتناق الصهيونية، التي ازداد نفوذها في أوساط اليهود بشكل سريع بعد الهولوكوست، والتي سيسفر انتصارها الختامي عن طرد أكثر من 700 ألف عربي فلسطيني، وهي «النكبة» الفلسطينية. على العكس من ذلك، كانت إقامة دولة «إسرائيل» قد جعلته يشعر بـ «واجب خاص» تجاه الشعب الذي اقتلعته من جذوره. «أفضل الارتباط باليهودية على هذا النحو أكثر من الآخرين»، أو كما عبر: «سأكون آخر من يقلل من أهوال أوشفيتز، حيث قضى أبي وأمي. ولكن أليست دموع الآخرين ذات قيمة أيضاً؟ هل أغمض العين عن الدموع التي سببها أولئك الذين يسمون أنفسهم - وهم كذلك بدرجة ما - أبناء جلدتي، حتى إذا كانوا هم أنفسهم من الناجين من أوشفيتز؟ أنا لا أقول إن الأمر بلغ أبعاد أوشفيتز، غير أن الكثير من اليهود تسببوا في جعل الكثير من الدموع تنهمر في فلسطين».
ولقد وجه اليه خصومه تهمة الدفاع عن العرب دون تبصر؛ الأمر الذي لم يكن صحيحاً أبداً. «لم ارتبط في أي يوم بأي من المواقف السياسية والتكتيكات والاستراتيجيات الخاصة بالعرب»، قال ذات مرة. «المثقفون العرب يدركون ذلك جيداً، وبعضهم اتهمني بالعداء للعرب، وبمناهضة الإسلام، وحتى بإشاعة صهيونية خفية أكثر خطورة. ومدهش حقاً ذلك التناظر بين المناهج الدفاعية (الهجومية والدفاعية) عند الصهاينة وأولئك الذين يمثلون النزعة القومية العربية المتطرفة، أو أية نزعة قومية متطرفة في الواقع».
تجربة رودنسون في الحزب الشيوعي، الذي غادر صفوفه بسبب الستالينية في العام 1958، خلفته في حال من الفزع تجاه الجمود العقائدي، وقادته الى إدانة «الاخضاع الضيق لجهود الوضوح على حساب تفسيرات التعبئة، حتى إذا كان ذلك بسبب قضية عادلة». ومنذ ذلك الحين بات رجلاً حراً، وفي العقد التالي نشر رودنسون بعض أخصب دراسات الشرق الأوسط، بينها «محمد»، 1961، وهي سيرة ما تزال حتى اليوم ممنوعة في بعض أرجاء العالم العربي لأنها تقارب حياة النبي من منظور سوسيولوجي، و»الإسلام والرأسمالية»، 1966، وهو دراسة في المحاق الاقتصادي للمجتمعات المسلمة. وعلى رغم بقائه ماركسياً مستقلاً (أو «لا أدرياً» كما عبر)، فإنه ظل يثمن الدور الجبّار الذي لعبه الدِّين في العالم العربي خلال زمن كان فيه الكثير من اليساريين الأوروبيين المراقبين للمنطقة يفضلون رؤية الدِّين في إسار وعي زائف سيذوب في الهواء حين تستيقظ الجماهير العربية على مصالحها الطبقية «الحقة».
وبعد الحرب العربية. الإسرائيلية العام 1967، برز رودنسون في صورة المدافع الرائد عن كفاح الفلسطينيين من أجل تقرير المصير، فنشر مقالة أساسية في مجلة جان - بول سارتر، «الأزمنة الحديثة»، بعنوان «إسرائيل واقع استعماري»، وأسس «مجموعة البحث والعمل من أجل فلسطين» مع زميله جاك بيرك الباحث المعروف في شئون المغرب. شجاعة موقف رودنسون في ذلك الوقت ليست بحاجة لتقريظ، وليس فقط لأنه كان يهودياً.
نشر النص في مجلة «The Nation»
الأميركية
إقرأ أيضا لـ "آدم شاتز"العدد 3257 - الأحد 07 أغسطس 2011م الموافق 07 رمضان 1432هـ