في يوم ما، في زمن ما، في مكان ما، حياها ونسى، غابا في الزحام، واضمحل كل شيء، أو هكذا.
مضت الأيام ، وجاءت الأيام.
في اليوم الأول، يعود الذي كان دون سابق إنذار. تبدي تحية خفيفة بحياء بائن، ولكن بلهفة شديدة، تذكرت ما كان في الروح غافياً، واستيقظ للتو.
في اليوم الثاني يباغتها بسلام صباحي جميل من حيث لا تدري، من شخص حفظته دون أن تعرفه تماماً، وحفظها في الروح دون أن يعلم كذلك.
ترد عليه بانشراح مشوب بلحظة غير متوقعة يغمرها الفرح النائم منذ الأزل منذ اللحظة العابرة.
في اليوم الثالث يقفان قبالة بعضهما يتجاذبان أجمل الحديث، وعلى مرأى من زميلاتها وزملائها، وفي مكان لا يسمح إلا بأقل التحايا وبحذر شديد، ولكن لقاء الروح بالروح أقوى من كل شيء، ولا يأبه بشيء.
في اليوم التالي يعاود الكرة على استحياء، ولكن برغبة لا تقاوم.
تفاجئه: أعرفك منذ زمن، ولا يهم صاحب المحل، ولا ماذا يقول، لنتحدث.
صحيح: ولكن لا أريد إحراجكِ.
في اليوم الذي يليه يبادرها: وأنا أعرفكِ أيضاً، أعرفكِ منذ مدة، ولكنكِ في المكان غير المناسب، والوقت غير الملائم.
ضحكت وتورد خداها، وقالت: العيون ترقبنا مذ تعرفت عليكَ.
بادرها، أعرف ذلك، صاحب المحل يرقبك، ويتبعني بنظراته، وكأنني الزبون الوحيد في هذا المحل، وكأنك الموظفة الوحيدة هنا، لا شغل له سواكِ.
قالت: لا، الأمر أكبر من ذلك، زميلاتي يرقبنني ويتابعنك من طرف خفي منذ تعرفت عليك، وقد أشاروا على صاحب المحل بذلك، وبدأت المضايقات.
نعم: هذا ما لحظته في تهامسهن ونظرات عيونهن، ومتابعات ونظرات سيد المكان
هذا ما أراه فأنا اخبرُ منك في عيون النساء وما يدور في خلدهن، الغيرة تقتلهن
إذن ما العمل يا سيدتي؟
لا شيء سنظل على هذه الحال، «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً».
ومتى يقضي الله ما نحن فيه؟
بالأمس وبخني صاحب المحل تجاهك تلميحاً مبرراً ذلك أنني أطيل الحديث مع الزبائن، ولكنه يقصدك بالتأكيد.
إذن لا تطيلي الحديث مع المتبضعين، ولا معي، حيث لم أكن في وارد إحراجك.
لا عليك، أبداً لم تحرجني، سأرتب أموري، في هذا المكان، لا تخف، وأنا لا أتحدث مع المتسوقين في هذا المحل، كما أوحى لك صاحبه. وأنا لا أجيد الكلام إلا معك، فأنت الزبون الوحيد الذي أجيد الحديث معه، ولا أحد سواك. أنا أحب الحديث إليك، ولا أبيع الكلام كبقية السلع، أجل إنها سلعة عزيزة لشخص كريم مثلك.
هنا تأكد ورد، من أن مريم تعني ما تقول، ولا تتلاعب بالألفاظ والقلوب، ولا تبيع الكلام أسوة بالضائع، كلام من القلب إلى القلب.
جاء صاحب المحل ليفض لحظة الحديث الجميل، الذي ليس من بضاعته، ولا يمكنه أن يستثمر فيه، فهذه بضاعة من نوع آخر.
يجمع ورد حاجياته، ومشترياته على عجل ويهم بالحركة، يبادرها بتحية وداع.
ترد عليه: لقد جاء ... لا أريد إحراجَكَ، مع السلامة سنلتقي، في يوم ما.
مع السلامة، وأنا لا أريد إحراجَكِ.
يمّم وجهه ناحيةَ، وفي القلبين شغف متبادل، مضمخ بحديث الروح، لا بحديث الربح
اختفى المشهد
بقت الذكرى
وطارت النسمات في الجهات الأربع
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 3256 - السبت 06 أغسطس 2011م الموافق 06 رمضان 1432هـ
جميل
كريم