يُخطئ الثوريون العرب إن حَسِبُوا أنهم أحقّ بالثورة من غيرهم فقط لأنهم من رجالها. والصواب هو أن الثورة مُلكٌ لكلّ مَنْ يستطيع قيادتها بشكل أفضل. وهذا يعني أنها مُلكٌ للكفاءات وليس لمن أوقدها وسار بها إلى النصر. فالفهم الصحيح هو أن الشرعية والأحقيّة لا تكتَسَب من النضال السياسي والعسكري ومن سنوات التحرّر فقط؛ وإنما من القدرة على الحفاظ على ما يلي التحرّر وهو الحرية التي كانت تعتبرها حنَّة أرِندِت هي جوهر التغيير.
لاحظوا التاريخ العربي الحديث منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، ستَرَون، أن كلّ الذين قاموا بالانقلابات أو الثورات بغرض التغيير نحو الدمقرطة هم ذاتهم من أمسَك بالحكم وجعله كالمُلك العضوض. في الجزائر انضمّ هواري بومدين إلى جيش التحرير الوطني إبّان ثورة العام 1954م فحَكَمَ الجزائر بعدها 13 عاماً. الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع انقلب على سلفه محمد خونه ولد هيداله فقضى في السلطة من العام 1985 وحتى لحظة الإطاحة به في العام 2005 إثر انقلاب عسكري غير دموي قام به الحرس الرئاسي.
زين العابدين بن علي قاد الحركة التصحيحية في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني ضد الحبيب بورقيبة فأمسك بالسلطة 24 عاماً ولم يتزحزح إلاّ بثورة شعبية ساندها الجيش. معمّر القذافي انقلب على الملكيّة السنوسية لتحويل ليبيا إلى جمهورية ديمقراطية شعبية عظمى لكنه أخلَد إلى السلطة منذ العام 1969م ولغاية اليوم الذي تدكّ فيه طائرات الناتو طرابلس الغرب ومصراتة والبريقة وممرات الجبل الغربي بغية إزاحة الرجل عن الحكم في مشهد دموي رهيب.
بالطبع تتعدّد النماذج في ذلك حتى اكتمال الدائرة من العراق وسورية واليمن وبقيّة الجوقة من الحاكِمين الذين رفعوا شعار التغيير والحرية والكرامة وكافة الشعارات الرنانة. الغريب أن أولئك القادة في أغلبهم لم يكونوا متعلّمين بالقدر الذي يجعلهم قادرين على إدارة البلد؛ بل إن اعتمادهم كان على شرعية مسلكهم السياسي في الثورات أو الانقلابات، وهو ما أساء لمفهوم التغيير، وجعله مُشوهاً لا يثق به أحد في ظل النمذجة السيئة لذلك المصطلح.
اليوم وللأسف فإن ما نشاهده هو إعادة لتكريس ذلك السلوك القديم على الثورات العربية. فنسمع أن في مصر يُصرّ الشباب الذين قادوا الثورة على ضرورة منحهم مناصب في الوزارات وإن على هيئة نواب للوزير. وفي اليمن يظهر المجلس الرئاسي الانتقالي وهو مكنوز بشباب له ذات الطموح. هم يقولون (سواء في مصر أو تونس أو اليمن) إن إصرارهم على تلك المناصب نابع من خوفهم من أن تسرَق الثورة التي أشعلوها كما سُرِقت الانقلابات من قبل، ونحن نقول إن الثورات لا يضمنها منصب؛ وإنما الذي يضمنها هو الرقابة المعنوية للشعوب، وهي أقوى المراقبات.
لا نكتفي بذلك فقط، وإنما نزيد عليه ما تتطلّبه مناصب الوزارة والريادة من مؤهلات علمية وعملية وخبرة ودراية ومرحلة عُمرية لائقة تقيها الزَّلل والوقوع في المحظور ما أمكن. بالتأكيد لا نبخس أحداً في منزلته ومكانته، لكن ما نفهمه في العمل السياسي والبيروقراطي هو أن إدارة الدول ليست مزحة، وهي غير خاضعة للعواطف. كما إنها تتخطى الانفعالات، أو القبول بقسمة الغنائم بعد النصر وإن كانت الدفوع والنيات سليمة، وبعيدة عن الانتهازية.
في التاريخ الأوروبي وإبّان الثورة الفرنسية وجدنا أن الثورة لم تسِر بمن عمَّروا البنادق وحملوا الألوية، وإنما من خلال العلماء والمفكرين الذين أمسكوا بالمهمات البيروقراطية الجسيمة للدولة المنتَجَة ثورياً. فعُيِّن المهندس والخبير في علم الهندسة لازار كارنو مشرفاً على المجهود الحربي في فرنسا، وعُيّن عالم الفيزياء مونج وزيراً للبحرية، والكيميائي عالم الاقتصاد لافوازييه مسئولاً عن إعداد تقديرات الدخل القومي، وربما تلقى الفرنسيون درساً عندما سرّحوا قادة الجيوش البحرية لديهم باعتبارهم من الطبقة الأرستقراطية ليُمنَوا بأكبر الهزائم العسكرية البحرية مع الإنجليز في تاريخهم، كما يذكر ذلك المؤرخ إريك هوبْزْباوْم.
على الشباب والثوريين المتحمسين أن يُدركوا أن السلطة هي مفسدة. كثيرون ممن كانت أيديهم نظيفة ثم تلوَّثت بالفساد عقب دخولهم دهاليز الحكم. لم تشفع لا الوطنية ولا الدين ولا التاريخ المشرِّف من أن تنزلق النفوس نحو حب المال والسلطة. المارشال الفرنسي الأسطورة فيليب بيتان خاض معركة شرسة دامت عشرة أشهر ضد الجيش الألماني في موقعة فيردان خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت مفصلية لتغيير مجرى الحرب حينها لكنه وبعد ثلاثة وعشرين عاماً فقط قبِلَ في أن يُصبح عميلاً لألمانيا النازية في حكومة فيشي في العام 1940 مُلغِياً دستور يوليو/ تموز طمعاً في السلطة.
قادة عسكريون وسياسيون بارزون، ورجال دين أنتجتهم الثورة الإسلامية في إيران جاءوا من أحزمة الجوع، ينامون على حَسَك السّعدان من الإملاق، لكنهم وبمجرد ولوجهم السلطة أفسدتهم وجعلتهم يعودون إلى غرائزهم الحقيقية. ليس أولئك فقط، بل في العديد من الدول العربية والإسلامية، وفي التاريخ الإسلامي ذاته سنجد ما يفيد بذلك وأكثر. هذه هي السلطة وهذا هو الثراء الذي هو كماء البحر، كلما شربت منه زاد عطشك؛ وذلك ينطبق أيضاً على الشهرة، كما كان يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور.
خلاصة القول، هو أن الثورات ليست ملكاً لأشخاص ولا لأحزاب ضحَّت في سبيلها، وإنما هي مُلك للأقدر على حملها وتحقيق أهدافها، ثم إن مناصب الدولة هي للأكثر خبرة وعلماً ونزاهة. وأخيراً، إن السلطة هي مرتع للفساد والإفساد وتمييل النفوس والبشر نحو غرائزها. وقانا الله شرّ حبّ الملك والسلْطة وبلاءها
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3246 - الأربعاء 27 يوليو 2011م الموافق 26 شعبان 1432هـ
الخيانة والتحايل وقلب الامور هي التي تفسد شباب الثورة .... ام محمود
أتفق معك في هذه الكلمات( أن الثورات ليست ملكاً لأشخاص ولا لأحزاب ضحَّت في سبيلها، وإنما هي مُلك للأقدر على حملها وتحقيق أهدافها، )
_
وأختلف معك في هذه العبارة (قادة عسكريون وسياسيون بارزون، ورجال دين أنتجتهم الثورة الإسلامية في إيران جاءوا من أحزمة الجوع، ينامون على حَسَك السّعدان من الإملاق، لكنهم وبمجرد ولوجهم السلطة أفسدتهم وجعلتهم يعودون إلى غرائزهم الحقيقية)
لأن الثورة الإيرانية هي نموذج راقي للثورات الناجحة والدليل استمرارها القوي
_
السلطة الخبيثة هي المفسدة
وليست السلطة القويمة
حنَّة أرِندِت : أن " كل المؤسسات السياسية هي تجليات وتجسدات مادية للقوة، فهي تتكلس وتتحلل عندما تكف القوة الحية للناس عن دفعها". .. ام محمود
فالقوة عند أرنت ضرورية لتحقيق التنسيق بين الأفراد لأداء هدف اجتماعي متفق عليه فهي ضرورية لأي هيكل تنظيمي إنساني ولابد أن تقوم على الاقتناع الحر من جانب المحكومين ومن ثم تكون القوة هنا قوة اجتماعية إيجابية
_
وترى حنا عند تحليلها للنظم الشمولية أن العنف يتعارض جوهريا مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تماما فتذهب في كتابها في العنف إلى القول إن السلطة والعنف يتعارضان فحين يحكم أحدهما حكما مطلقا يكون الآخر غائبا. ويظهر العنف لما تكون السلطة مهددة لكنه إن ترك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة
شباب الثورة ليس هدفهم اعتلاء المناصب واستلام السلطات هدفهم أكبر من ذلك بكثير ... ام محمود
إن مرحلة ما بعد نجاح الثورة أصعب من مرحلة قيامها لأن الثوار عليهم تأسيس بنيان صلب يضمن استمرار الأهداف والغايات التي ثاروا من أجلها .. وهم قدموا حياتهم و دماؤهم في سبيل انجاح ثورتهم والتضحيات الجسيمة ومن الظلم القول بان هدفهم الوصول للسلطة والأموال والكراسي والثراء السريع.
_
ربما يكون هدفهم الأول اجتثثاث الظالمين والمفسدين من على الأرض وتقديمهم للمحاكمة ونيلهم الجزاء المستحق لجرائمهم (جرائم الطغاة)
الهدف الثاني الانتقام ممن قتل الشهداء
_
.. وتغيير الدولة من نظام استبدادي الى ديمقراطي منفتح
بالقانون والعدالة والمساوات تضبط الأمور
إذا ماوجدت نيات صادقة وأمينة ومحبة للوطن وطبق القانون السوي بالعدل على الجميع بدون تمييز فسوف ينعم الجميع بالتساوي بخيرات البلد .........
المحك والإختبار هنا
عندما تكون في السلطة وتستطيع أن لا تنجر وراء الرغبات ولا يغرّك المصب فهذا قمة الإستقامة وعندها يستطيع المرء أن يقول عن نفسه أنه نجح فعلا