بعد انتحار المشير عبدالحكيم عامر على خلفية نكسة 1967 ولأول مرة منذ قيام ثورة الضباط الأحرار في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 1952 بدأت المؤسسة السياسة تحكم في مصر، وبدأ الرئيس جمال عبدالناصر في إعادة بناء المؤسسة العسكرية وتسليحها من جديد تمهيداً لاستعادة أرض سيناء، ولكن القدر لم يمهله طويلاً.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول 1969 ودّعت مصر بالدموع واحداً من أعظم الرجال الأبطال الذين بذلوا حياتهم لمصر، ليخلفه عسكريٌ آخر هو الرئيس أنور السادات الذي أكمل ما بدأه عبدالناصر من إتمام بناء القوات المسلحة وتجهيزاتها. وفي يوم 7 أكتوبر 1973 اجتاحت القوات المسلحة المصرية القناة وأزاحت أسطورة خط بارليف وصولاً إلى الضفة الشرقية للقناة، والتي انتهت بتوقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر و «إسرائيل» العام1977 واسترجاع مصر لأرض سيناء.
لقد أثارت تلك الاتفاقية المنفردة غضب العالم العربي والإسلامي على الرئيس السادات، وانتهت باغتياله في العرض العسكري على يد خالد الإسلامبولي العام 1981 ليخلفه عسكري آخر هو الرئيس حسنى مبارك، الذي تقيَّد بمعاهدة كامب ديفيد ونأى بمصر عن الدخول في أية حروب مع «إسرائيل». وقد نجح في البداية بتحقيق بعض التقدم على المسار الاقتصادي، ولكن تقيُّد مصر ببنود كامب ديفيد جعلها في تبعية مطلقة للغرب في محاولة مستميتة لإرضاء «إسرائيل» بكافة الطرق.
لقد فشل مبارك في ترسيخ القيم الثورية السائدة في الستينيات، ونأى عن المشروع الوطني الذي وضعه عبدالناصر، وغرق الكثير من الحكام في التشبث بالسلطة، فشهدنا الكثيرين منهم قد أعدوا أبناءهم للرئاسة مثل صدام حسين ومبارك وعلي صالح والقذافي، بل إن بعضهم أطلق يد أبنائه ليعيثوا في الأرض فساداً كما لو كانت تلك الجمهوريات ضيعاً وأملاكاً خاصة. إلا أن السياسة الاستسلامية لمبارك التي توّجت ببيع الغاز المصري لإسرائيل بنصف السعر الرسمي، وغلق معبر رفح وفرض الحصار على غزة، وإطلاق يد أبنائه وزوجته وأتباعه في نهب ثروات مصر بطريقة فاضحة، أسهمت في تدهور وضع مصر. وساهمت موجة الغلاء في العالم العام 2007 على خلفية ارتفاع أسعار البترول (150 دولاراً للبرميل)، واستشراء الفساد في كل قطاعات الدولة، كل ذلك ساهم في تعميق حالة الفقر لمعظم شرائح المجتمع المصري، وتآكل الطبقات المتوسطة وارتدادها للطبقات الفقيرة. هذه العوامل مجتمعةً تفسّر حركة أبناء مصر البررة لإسقاط النظام في ثورة 25 يناير، والمطالبة بحقهم في الحرية والعيش الكريم.
ومن الأمور الأخرى التي عجلت في تفاقم الوضع الإنساني في العالم والدول الفقيرة كمصر وغيرها، هو إقدام الشركات العالمية على اختلاف منتجاتها الأساسية والاستهلاكية، على رفع أسعارها العام 2007 لتتناسب مع الارتفاع الجنوني في سعر خام البترول الذي تخطى حاجز 150 دولاراً للبرميل. في مقابل ذلك لو سألنا أنفسنا: ما هي أبرز تداعيات الأزمة الاقتصادية في 2008؟ لقد هوى سعر البترول بشدة إلى 35 دولاراً للبرميل، ثم تراجع تدريجياً في غضون عام ليستقر عند حدود الـ 75 دولاراً... هذا الهبوط الحاد في سعر البترول أوجد انفراجاً كبيراً للكثير من الدول غير المنتجة للنفط، ولكن الزيادة في الأسعار العالمية والتي لم تتراجع بنفس وتيرة تراجع أسعار البترول، أتت على كل مدخراتهم. وتبع ذلك أيضاً زيادة جنونية في بعض القطاعات الأخرى كالعقار، لم تواكبها زيادة موازية في الرواتب، حتى أصبح شراء قطعة أرض صغيرة لمواطن من متوسطي الحال ضرباً من المستحيل في بعض دول الخليج، فكيف بالدول الفقيرة كمصر التي يتجاوز سكانها 82 مليوناً، 6 ملايين منهم يعيشون في المقابر والعشوائيات، و40 مليوناً منهم تحت خط الفقر. فإذا كانت مصر بكل مواردها الزراعية والسياحية والخدمية لا تستطيع أن تلبي حاجات الناس الأساسية من الأكل والملبس والعلاج قبل 2007 فمن أين لها بالزيادة في الرواتب ودعم المواد الاساسية؟ وكيف للدولة أن توفق بين حاجات الناس الملحّة والنهب المتواصل والفساد ينهش أوصالها، وسعر صرف الجنيه في تراجع مستمر؟
هذا فيما يتعلق بواجبات الدولة تجاه المواطنين، ولكن السؤال: هل نستثني الشركات العالمية كشريك غير مباشر في هذا الأمر؟ بمعنى هل صاحب نزول سعر البترول واستقراره عند 75 دولاراً في 2009 تراجعاً مساوياً في أسعار السلع والمواد الغدائية والاستهلاكية؟ أجل انخفضت ولكن بنسب تتفاوت بين 10 إلى 20 في المئة، وهي نسب أقل بكثير من نسبة التراجع في سعر البترول، التي بلغت 50 في المئة (من 150 إلى 75 دولاراً).
إن أحد أسباب اندلاع الثورات بالشرق الوسط منذ بداية العام هو البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة، ولكن السؤال: أين تتجه الشعوب عند ارتفاع الأسعار؟ ولمن تضج بالشكوى؟ وماذا إذا شمّت روائح الفساد في الأجهزة الحكومية؟ وهل تملك الشعوب الفقيرة آلية لمحاربة الزيادة العالمية في الأسعار القادمة من وراء البحار والتي تسهم بشكل كبير في تأزيم الأوضاع الداخلية في معظم الدول العربية والفقيرة؟
إن المشهد السياسي في مصر وتونس مازال غير واضح، والسبب أن الجماهير وضعت كل شكواها على كاهل الأنظمة السابقة، وبعد أن أسقطتها مازالت تطلب التغيير. وهو أمرٌ من الصعب حدوثه بسرعة، في دول تعاني من ارتفاع أعداد العاطلين. ولذا نلاحظ استمرار تدفق الهجرة من قبل الكثير من الشباب التونسي إلى أوروبا حتى بعد نجاح الثورة. ولكن كم ستحتاج الحكومات الجديدة من وقت حتى تكشف أوراقها وإمكانياتها المتواضعة للجماهير؟ وعلى أي نحو ستبرّر بطء عجلة الإصلاحات وتعثرها أمام أماني الجماهير العريضة؟
إن المطلع على الأوضاع الاقتصادية في مصر وما يجري حالياً في ليبيا هذه الأيام، يعي جيداً أننا مقبلون على عصر جديد في ارتفاع أسعار البترول فقد تخطى خام برنت 118 دولاراً حتى 20 يوليو. ويلوّح الاقتصاديون بإمكانية ارتفاعه إلى 175 دولاراً العام 2012، وكأنما أسعار البترول في سباق مع ثورات الشعوب العربية التي تقوّض الاستقرار السياسي، وتؤثر في طريقها مقومات الاقتصاد. فالبورصات العربية تتراجع يوماً بعد يوم، والشركات الأجنبية تنذر بحزم الحقائب، وإن استمر الحال سوف نشهد هروب الاستثمارات الأجنبية، وربما نفيق على وقع سقوط حكومات الدول المترنحة كاليمن.
وفي موازاة ذلك، تطالعنا الأخبار الاقتصادية عن تراجع مخزون الحبوب في العالم، والبنك الدولي يحذر من ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 34 في المئة، وتحذر «الفاو» من آنٍ لآخر من أزمة غذائية مقبلة. ويطل القرن الإفريقي بكارثة إنسانية اسمها المجاعة، فيما بلغت أسعار القمح مستويات غير مسبوقة. ودول الشرق الأوسط في مخاض للخروج من أزمات ظاهرها سياسي وباطنها اقتصادي، من غلاء المعيشة وتدني الأجور والبطالة. فهل أعددنا أنفسنا كدولٍ وشعوب لهذه التقلبات؟ وهل العالم العربي في يقظة أم مازال في غفلة عما يجري حوله؟
عندما وصل عبدالناصر إلى السلطة كان عدد السكان 20 مليوناً، وفى الأعوام 1956 و1967 و1973 خاضت مصر ثلاث حروب طاحنة، وحين وصل حسني مبارك إلى السلطة لم تكن مصر تقوى على دفع أقساط الديون العسكرية. وبعد أن كانت في الخمسينيات وما قبلها تدفع كسوة الكعبة كل عام، تراجعت إلى دولة مدينة. لقد ثار الشعب المصري في 25 يناير وأزاح مبارك، ومازال الناس يحدوهم الأمل في الحكومة الجديدة، فهل ستستطيع حكومة عصام شرف تلبية حاجات الناس الملحة في الأكل والسكن والوظائف؟
لو سارت الأمور على أحسن وجه واستعادت مصر كل الأموال المنهوبة وشرعت في عمل مشاريع صناعية عملاقة تشغل أكبر شريحة من العاطلين، فهل ستستطيع هذه النقلة العملاقة من الإيفاء بحاجات السكان الملحّة في الإطار الزمني المرصود مادامت ترزح تحت سياط الزيادة المتسارعة في عدد السكان؟
إن مرض الثلاسيميا فى قبرص تم القضاء عليه بقرار سياسي، في بداية التسعينيات، ومصر بحاجة إلى ضبط وتيرة أعداد السكان المنفلتة. فعدد سكان بريطانيا ارتفع من 46 مليون إلى 65 مليون خلال 60 عاماً، في حين تضاعف عدد سكان مصر في الفترة نفسها أربعة أضعاف (82 مليون نسمة). هذه الزيادة المخيفة ليست بالعدد الكبير قياساً بالهند كما قد يقول البعض، لكن الهند ليست بالمثل الجيد الذي يحتذى في هذا السياق، ولكنّ أربعين عاماً من النهب والفساد أورثت مصر الفاقة، ما ساهم في تدني الخدمات الصحية والاجتماعية والتدهور الأخلاقي. ولن تستطيع حكومة شرف الجديدة أن توفر الأساسيات للمواطن المصري ما لم تدشن قرارات سياسية وتشريعات اجتماعية، وتتضافر جهود الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام، لتنظيم النسل حتى تبقى الزيادة في عدد السكان عند المعدل المطلوب، ولتتمكن أجهزة الرقابة المالية من رتق الخلل في موازنة الدخل والإنفاق.
لقد أوقفت الثورة نزيف النهب والفساد، ولكن مازال أمامها ملايين البشر تحت خط الفقر، والحل الأمثل هو خفض الإنفاق في المنظور البعيد. فإذا بلغت مصر هذا الأمر في الخمسين عاماً المقبلة، تكون قد خطت خطوات كبيرة في سبيل تحقيق سقف آمال المواطن المصري في العيش الكريم
إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"العدد 3245 - الثلثاء 26 يوليو 2011م الموافق 25 شعبان 1432هـ
عبد علي البصري
الشباب المصري يبحث اليوم في الجذور لتزيح كل ألتكتلات البكتيريه الطفيليه . اعني الفساد الاداري ، يا سياده الكاتب ثوره مصر اليوم تسير لا من اجل الرغيف وأنما من اجل التغيير الشامل . تسعى لا لتغيير نظام فقط وإنما لتغيير نظام وأديولوجيه نظام ، نحن على ابواب فجر جديد في مصر واليمن . هناك الامل . على بركات الله يا عرب انشاء ألله فجر جديد .
عبد علي البصري
هذا المخاض اذا نجح في تأسيس جمهوريه مصريه مستقله عن سلطه الجيش ، فستتحول لدوله تضاهي تركيا وإيران وأكثر ، وسيكون لها ثقل عربي وأسلامي يثقل كاهل ا لكيان الصهيوني . مصر لم تنجح ثورتها حتى تزيح العسكر عن سلطه الحكم . كما هو الحال في تركيا التي عانت من تسلط العسكر على كل الصعد الامنيه (مع جيرانها ايران والعراق وقبرص) وعلى المستوى الاقتصادي والامني الداخلي . اصبحت اليوم حكومه نظاميه . نتمنى لمصر ان تكون كذلك
عبد علي البصري
شباب مصر مازال على خط النار ، مازال يزعزع سلطه العسكر على منافذ الحكم في مصر . صحيح ان بدايه الانتفاضه الشعبيه في مصر كانت بعنوان الاصلاحات معيشيه ، ومن ثم تحولت الى مطالب اسقاط النظام . غير المتتبع لاحوال مصر اليوم يختلف تماما عما كانت عليه في بدايه الثوره ، التغيير اليوم يقوم على اساس سلطه مدنيه مستقله عن العسكر وهذا الحال اذا نجحت فسيكون هناك تحول في مصر 180درجه ، مازالت مصر في مخاض(( نسأل الله السلامه لمصر وشعبها ))