يمثل موضوع الثورة المضادة مبحثاً مهماً في الفكر السياسي الدولي المتعلق بفكر الثورة. وهو يعبر عن عدم فهم الواقع المعاش من قبل الثوريين وخصوصاً مفهوم المراهقة الفكرية أو التقليد الأعمى لأحداث في دول مختلفة لا يتماشي واقعها مع واقع الدولة التي يعيش فيها بعض الثوريين.
ومن المفيد في دراسة الفكر السياسي أن يدرك الباحث وكل من يعمل في الحقل السياسي هذه الحقائق حتى لا يرتكب أخطاء ومن ثم يعرض نفسه ومجتمعه لكوارث ونكبات بحسن نية وسوء تقدير، وخصوصاً أن كثيراً من العاملين في الحقل السياسي في المنطقة العربية هم من الهواة أو من غير الدارسين لمناهج العلوم السياسية وإن كانوا من المؤدلجين أي المعلبين في قارورة ايديولوجية سياسية أو دينية أو مذهبية، ومن ثم يصعب عليهم الخروج منها والتفكير بعقلانية وبفهم واعٍ للأبعاد التاريخية والثقافية والاجتماعية والجيوبوليتيكية والعلمية المتصلة بما يطلق عليه النشاط السياسي Political Activity وهو من موضوعات دراسة فلسفة وحركية العمل السياسي في المجتمعات المتعددة.
ولقد جاء اهتمامي بهذا الموضوع منذ دراستي للماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة القاهرة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وأثار شجوني ما لاحظته فيما أطلق عليه الربيع العربي في تسرع مبالغ فيه من قبل بعض الباحثين أو المتابعين للأوضاع في المنطقة العربية، ولكنهم في تسرعهم سرعان ما بدأوا يكتبون عما أسموه الخريف العربي أو الشتاء العربي أو الصيف العربي في تعبير عن حالة من اليأس إزاء مستقبل الإصلاح السياسي في المنطقة العربية.
وأنا أتابع أحداث مصر المحروسة منذ ثورة 25 يناير/ كانون الثاني لفت انتباهي هذا الموضوع مجدداً، ولذلك رأيت أن أتقدم بتحليل يناسب المقام ومن هنا كان هذا البحث. فمنذ الأسبوع الأول لنجاح ثورة 25 يناير المباركة، نشرت مقالين مطولين في البحرين عن الثورة المضادة، مستشهداً بالتاريخ السياسي في مناطق عدة من العالم. وعبرت عن قلقي الشديد من ذلك لأصدقاء في أرض الكنانة، ولكنهم أعربوا عن ثقتهم فيما حدث وابرزوا أن مخاوفي مبالغ فيها.
جوها هي الأيام تمر وكل يوم نجد الثورة المضادة تكسب أرضاً، والعمل لتحقيق الثورة المضادة يأخذ مظاهر عدة، أطلق عليها الثوريون الحقيقيون مثل «فلاديمير لينين» و «ماوتسي تونغ» وغيرهما مصطلح المراهقة الفكرية اليسارية، وأحياناً اليمينية. وهذه المراهقة تقوم على ثلاثة مقومات:
الأول: المبالغة في المطالب الثورية بما يعني حرق المراحل وعدم الواقعية الثورية.
الثاني: توسيع دائرة الاعتصامات لتشمل شل مؤسسات الدولة وتفكيك مؤسساتها وضرب كوادرها، وبهذا يتم الهدم الكامل من دون أن يحدث البناء. وهذا ما قام به الحاكم العسكري الأميركي بريمر في العراق.
الثالث: الدعوة للثورة المستمرة أو الثورة الدائمة، وهذا ما دعا إليه تروتسكي في الثورة البلشفية وعارضه لينين ثم ستالين، وأصرا على بناء الدولة الاشتراكية في دولة واحدة، أي روسيا ثم الانطلاق إلى غيرها.
اليوم عندما ينقسم ثوار التحرير ما بين دعاة الاعتصام ودعاة إغلاق مجمع التحرير، وإغلاق قناة السويس، ومحاصرة مؤسسات الدولة، هل يمكن القول إن هؤلاء بحسن نية وصفاء سريرة يعملون ضد أهداف الثورة ومبادئها من دون أن يدركوا الموقف.
وعندما يدعو البعض لإلغاء معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وفتح الحدود مع غزة على مصراعيها وإعادة العلاقات مع إيران من دون ضوابط، هل يدرك هؤلاء مخاطر مثل هذه الدعوات على أمن مصر وسلامة أراضيها؟ أم هل يعتقد البعض أن التظاهر والهتافات ستردع «إسرائيل» عن إعادة احتلال سيناء أو تردع إيران عن دورها التخريبي ونشر الفكر الشيعي ليكون أداة من أدوات النفوذ الإيراني في مصر؟ إنه من السهل إطلاق الشعارات، ولكن من الصعب تقدير عواقبها. بعض الثوريين العرب للأسف أمثال صدام حسين بنى العراق ثم دمره من دون تفكير من خلال قرارات تتسم بالرعونة ولا تشفع له حسن النوايا مهما كانت.
إن مصر في حاجة إلى البناء ليسير جنباً إلى جنب مع هدم القديم وهو ضرورة، ولكن الأهم والذي ينبغي أن تكون له الأولوية هو الحفاظ على مؤسسات الدولة وأمن المواطن وأمن الوطن. لقد نشر مركز المعلومات ودعم القرار التابع لمجلس الوزراء المصري نتائج استطلاع رأي عبر من خلاله 47 في المئة عن أنهم لا يشعرون بالأمن، و50 في المئة يرون أن الشوارع أصبحت غير آمنة.
لقد وقع الزعيم الصيني الثوري ماوتسي تونج عندما وصل للسلطة في فخ المراهقة الثورية على رغم أنه حذر مراراً من الوقوع فيها، وأطلق ثورة ثقافية امتدت عشر سنوات، فجمدت الدولة وأدى ذلك لتراجع أدائها الاقتصادي والأمني، وإذلال المواطنين المفترض أن تخدمهم الثورة. في حين أطلق الزعيم الصيني دنج سياو بنج ثورة صناعية تكنولوجية نقلت الصين من وضع الدول النامية المتخلفة إلى مصاف الدول الأكثر تقدماً.
إن الثوري الحقيقي هو الذي يبني وليس الذي يهدم، وحقاً طرحت ثورة مصر العام 1952، عدة شعارات منها «نبني ولا نهدم»، «نصون ولا نبدد»، «نقوي ولا نضعف».
إن أنصار الثورة المضادة في مصر موجودون في كل مكان في الدولة وفي مؤسساتها وفي دوائر الإدارة والأمن وغيرها، ولكن هؤلاء يمكن التغلب عليهم، أما إذا وجدوا بين الثوريين أنفسهم من خلال الانقسام وعدم وضوح الرؤية والتركيز على الهدم أكثر من الاهتمام بالبناء، فإن هذا هو الطريق الأكيد لتحقيق أهداف الأعداء من إضعاف مصر سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
إن الثوريين يجب أن يتحدوا تحت قيادة موحدة تضبط إيقاع الحركة والعمل وليس أكثر من مئة وخمسين ائتلافاً، فضلاً عن عشرات الأحزاب والشخصيات العامة. إن هذا التنوع يؤدي للتشاحن وفقدان الرؤية الواضحة وهو كفيل بانهيار الدولة ووقوعها فريسة في يد أعدائها.
وفي الوقت نفسه فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عليه مسئولية مهمة بصفته اضطلع بدور رئيسي في حماية الثورة وإنجاحها، أي عليه حمايتها فهو القوة الرئيسية بل الوحيدة الموحدة وذات الصدقية، وهو لا يبحث عن دور فدوره معترف به من كل فئات الشعب. إن عليه أن يضمن حماية أمن الوطن ومؤسساته ومنشآته ويفرض الانضباط في الشارع المصري هذا من ناحية ويسارع في تقديم قيادات وأتباع النظام السابق للمحاكمة العادلة فهم ارتكبوا جرائم سياسية قبل أن تكون جرائمهم مجرد تبديد المال العام. كذلك عليه فرض القانون بحزم وعدم السماح بالتسيب السياسي أو التسيب الأمني ومعاقبة كل من يخرج على القانون. إنني أخشى أن تتحول مصر إلى 85 مليون قائد، واحد يعتصم وآخر يتظاهر وثالث يوجه الاتهامات للآخرين ولا يعمل أحد، ومن ثم تحل بمصر كارثة عظمى أكبر مما يمكن تصوره
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3238 - الثلثاء 19 يوليو 2011م الموافق 17 شعبان 1432هـ