بحضور عدد من النقاد والأدباء وأصدقاء الكاتب، افتتح عبدالحق نجاح عن نادي القلم المغربي ندوة «السرد والمِرآة في أدب شعيب حليفي» من خلال نصه الأدبي «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله»؛ قائلاً، إن هذا اللقاء مع حليفي يأتي لعدة اعتبارات منها ما يُمثله الكاتب بالنسبة إلى الثقافة المغربية من خلال نقده الأدبي الموسوم بالجدية والعمق؛ وإبداعه الروائي المتميز بالتجديد والمغامرة؛ ثم حضوره مثقفاً فاعلاً، سواء بصفته باحثاً جامعياً ومؤطراً أكاديمياً في مختبر السرديات، أو فاعلاً في عدد من الجمعيات وخصوصاً المرصد المغربي للثقافة.
المداخلة الأولى كانت لشهلا العجيلي (روائية وناقدة من سورية) بعنوان «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله: مفردات مؤلمة بمنقاش من أثير»، والتي قرأها بالنيابة سالم الفائدة، تناولت فيها بعد التمهيد خمسة عناوين سعت من خلالها إلى مناقشة النص، قائلة، إن العلاقة مع الذاكرة تتخذ وجهاً آخر في الإبداع، حينما تتحول من علاقة خفيّة إلى معلنة، تتجلّى في سيرة ذاتيّة روائيّة، أو في رواية سيرة ذاتيّة، تذوب الحدود بينهما. وأضافت، أن شعيب حليفي رسم دروباً محدّدة، لما له من تاريخ وعلاقات وشخصيّات، وأوحى للمتلقّي أن يسير فيها، فكان أبعد ما يكون عن كاتب يوميّات، فالمتلقي عنده حاضر، غير مغّيّب، لذا فهو يكتب وينشر، لأنّ لديه قولاً ما، ويُنتظر منه أن يقوله. ذلك أنّ قضيّة الكتابة، بالصورة التي تجلّت في هذا النصّ، تستدعي درجة عالية من الوعي والإرادة، تختلف عنها في أنواع السرد الأخرى. كما أكدت الباحثة بأن الكاتب يبدو قادماً من ملحمة إغريقيّة، معجباً بعالمه المفعم بالجمال، منسجماً مع يوميّاته، ولا تختلف مهمّته عن مهمّة هكتور، أو آخيل، في الدفاع عن ذلك الجمال وهذا الانسجام ضدّ أيّ اعتداء خارجيّ، بسبب من حبّ موصول بنزعة صوفيّة فطريّة فتتشكّل لديه الهويّة أثناء التعبير عن مراحل الوعي الجماليّ تلك، وأثناء مراحل الدفاع عنه.
وتختم شهلا العجيلي ورقتها بأن شعيب حليفي لا يستحضر شخصيّاته لأنّه بحاجة إليها ليبني خياله؛ بل لأنّه بحاجة إلى أن يعبّر لها عن حبّه، أو إعجابه، أو عن مقته، أو احتقاره، وذلك بدءاً من صالح الورّاقي وعصبته التي يكوّن (مويليد) زاويتها، إلى الشموس الثقافيّة التي عمّ نورها المشرق والمغرب.
أما الناقد التونسي رضا بن صالح فقد اختار الحديث عن نص «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله» من زاوية «بلاغة التخييل الذاتي»، والتي قدمها بالنيابة عنه الباحث ناصر ليديم، متسائلاً منذ البداية عن تجنيس النص هل هو تخييل روائي دفعه التجريب إلى استنطاق المرجع واستثمار حقائقية الذات في عمل إبداعي ينبو عادة عن المرجع، وإنْ دلَّ عليه، وينفر من الحقائقي؟ ويضيف الباحث، أننا لم نستطع،انطلاقا من العتبات، أن نحدد على وجه الدقة جنسه و مُنْتَسَبَه، ضبطاً علمياً لآليات الكتابة الروائية ورسماً لتخوم الإبداع الذي يأبى التحديد والترسيم. والمؤلف بحسب الناقد لم يكتف بتعدد العتبات إنما مال إلى ثنايا النص يخلخل السائد في بناه الحكائية، فهو يضمخ النص بحكايا الآخرين، وبذلك تغدو هوية الكاتب غير مفصولة عن هويات الآخرين، ويغدو الكاتب رسولاً همه حمل أحلام الآخرين الذين يحبهم ولا يستطيع أن يؤسس وجوده بمعزل عنهم، وتغدو الكتابة عنده جزءاً من الحياة ودفاعاً عما يمنحها مشروعيتها.
وفي الختام يرى الناقد أن رواية «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله»، من الروايات التي تستحق أن يضعها الإنسان إلى جوار روايات أخرى، يعيد قراءتها كلما اشتدت وطأة الحياة عليه وضاقت به السبل وتنكر له الأصدقاء، فالقارئ لا يسعه إلا أن يقرأ الرواية بالكثير من الحب لأنه يشعر بأنها حكايته أو قل حكاية جيل بأكمله.
تناول الكلمة بعد ذلك الباحث الموريتاني محمد ولد بادي في مداخلة بعنوان: «المعنى في نص لا أحد يستطيع القفز فوق ظله»، معتبراً النص قابلاً للتأويل وتعدد المعاني ما دام عملاً أدبياً يحمل إلى قارئه أفقاً مختلفاً عما ألفه، فكون النص عملاً أدبياً يجعله لا يخلو من معاني ودلالات يمكن للمتلقي أن يصل إليها عن طريق التأويل والقراءة العميقة، إذا استثمر خبراته ومرجعياته الثقافية والإيديولوجية، ويرى الباحث أننا إذا أردنا تأويل نص «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله»، تأويلاً منطقياً، فلابد أن ننظر إليه من زاوية كونه يدخل ضمن الأدب الشخصي: (السيرة الذاتية، اليوميات الخاصة، المذكرات)، على رغم اختلافه النوعي والخاص عن جميع هذه الأجناس الأدبية، فالكاتب في نصه يهتم بالجزئيات واليوميات، وعبرها يعيد الحياة لجميع تلك التفاصيل والأشياء الصغيرة التي تحيط بنا، ولا تثير انتباهنا وقد لا نعيرها أي اهتمام، لأنها عادية ومألوفة، وكونها كذلك هو ما يجعل الكاتب يهتم بها، لما لها من تأثير في توليد الإبداع وتخصيب الخيال، وهذا هو مكمن الطرافة في النص ومثل هذه التفاصيل التي يمدنا بها شعيب حليفي هي الحلقة المفقودة في جميع أجناس الأدب الشخصي، وهو ربما ما حدا بالكاتب إلى سد تلك الثغرة، وبالتالي فنص «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله»، محاولة جادة لإنشاء جنس إبداعي جديد ينتقل بسؤال متلقي السيرة الذاتية من كيف عاش المبدع حياته؟ إلى كيف يعيش المبدع حياته؟
عنون الناقد إبراهيم الحجري مداخلته بـ: «حليفي ينقب في ذاكرة الأسلاف عن شكل لكتابة الهوية»، وفيها يرى أن الرواية تجمع بين خطابات عديدة تنحبك عبر فعل السرد ، لتقدم للقارئ نموذجاً جديداً للسرد الروائي، حيث شعيب حليفي يفضل العودة إلى ذاته كمركز تتجمع حوله خيوط كثيرة متشابكة للحكاية، وذلك عبر مساءلة الذاكرة الشخصية في تفاعلاتها اليومية مع المشاوير المختلفة التي يخوض فيها الكاتب بتناغم، وأيضاً عبر العودة إلى تاريخ السلالة، وليس الإغراق في هذه التفاصيل مجرد ترف في لعبة الحكي؛ بل هو فعل استراتيجي لكونه يطرح أزمة الذات المثقفة في بلد تحكمه العرقيات والعصبيات على المستوى الثقافي.
فبقدر ما كانت الرواية رداً على طرح الانتماء الذي رسخه بشكل مغرض مجموعة من أشباه المثقفين الذين كان همهم الثراء والاستفراد بمراكز القرار، كانت أيضاً انتصاراً للذات العروبية القادمة من الشاوية ودكالة والحوز وغيرها، على أساس أنها الوحيدة التي ماتزال تتشبع بالقيم البلدية الأصيلة مثل التسامح والاجتهاد والتضامن وخدمة الناس بسخاء، والتجرد لخدمة الوطن بصدق.
وقد فرّع إبراهيم الحجري الأطروحة المركزية للرواية إلى شقين: شق أول ذاتي، سعى فيه العمل الروائي إلى النبش في الذاكرة الشخصية للبطل الذي يتطابق في الغالب مع شخصية الروائي، وفياً بذلك إلى نمط اليوميات التي تنطوي تحت جنس السيرة الذاتية بالمفهوم الجديد، الذي يُدخل كل ما هو متعلق بالذات في الكتابة؛ والشق الثاني موضوعي، يتعلق بالوسط العام الذي يتحرك فيه هذا العامل الذات، وهو وضع مأزوم على كل المناحي والمستويات. وما عودة الذات إلى الماضي عبر استنطاق الذاكرة، إلا صورة مصغرة للهروب من منطق هذا الواقع السخيف المغلف بكل الإحباطات والخيبات. ثم أضاف لهما شقا ثالثاً نقدياً ينصرف من خلاله الروائي إلى الحديث عن الكتابة وهمومها وآفاقها، عبر إيراد خطاب ميتاروائي يكشف بعض الأسئلة النقدية المتعلقة بكتابة اليوميات، والسيرة الذاتية، وجدواهما في الحياة.
وفي الأخير فالكتاب بقدر ما يختزل قيما أدبية وجمالية وفنية وفكرية وسجالية، فهو يتضمن أيضاً قيمة توثيقية ترصد تاريخاً منسياً من مسارات الشخوص والأفضية، وأرشيفاً من الأحداث والوقائع التي سقطت سهواً من جيوب المؤرخين المثقوبة.
وفي مداخلته الموسومة بـ «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله: حاشية على الكتابة الروائية لشعيب حليفي»، اعتبر الناقد بوشعيب الساوري هذا العمل السردي حاشية أو هامشاً كبيراً ينير المتخيل الروائي لشعيب حليفي، ويفتح منافذ عدة على ورشه الإبداعي، ويدعونا بشكل غير مباشر إلى إعادة قراءة نصوصه الروائية السابقة. كما اعتبره بمثابة ورشة لكتابة رواية أو ما قبل رواية، انسجاماً مع العنوان الثاني للعمل «الاحتمالات العشر لكتابة رواية واحدة». وهو أيضاً تدشين لنمط جديد من الكتابة الروائية، مواكب لانشغالات الكاتب الاجتماعية والثقافية وعلاقته بالعالم والكتابة والحياة؛ إذ يلمح الكاتب إلى وجهات نظره في الكتابة ودورها ووظيفتها، وهو ما يجعلها قريبة من الكتابة الروائية التي تستطيع ذلك، تجمع بين عدة أنماط سردية. كما أبرز الباحث أن العمل السردي يسعى إلى تكريس كثير من القيم النبيلة التي أخذت تخبو في علاقاتنا
العدد 3235 - السبت 16 يوليو 2011م الموافق 14 شعبان 1432هـ