كلما تصفحت أو قرأت كتاباً عن تاريخ مصر القديم أو المعاصر، وجدت بين كلماته ومعانيه ثورة، ربما كانت ثورة فكرية أو ثقافية أو اجتماعية، ثورة تنشد التميز والإبداع والرغبة في التغيير والتحول الى الأفضل والأسمى.
وربما تكون إحدى العلامات الفارقة في تاريخنا الحديث من وجهة نظري - على الأقل - هي ثورة يوليو (1952) التي قادها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وقامت بتحقيق الكثير من طموحات الشعب المصري، بدءاً بتطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق بين الطبقات، ومروراً بالاهتمام بالصحة والتعليم والثقافة وإعادة الكرامة للعامل والفلاح والقضاء على الإقطاع وإحياء القومية العربية وبمساعدة العديد من دول العالم الإسلامي على التحرر من الاستعمار، وانتهاءً بقرار تأميم قناة السويس وعودة هذا الشريان الحيوي إلى أصحابه أبناء مصر.
ومن حسن الطالع، أن نحتفل هذا العام بالذكرى التاسعة والخمسين لثورة الثالث والعشرين من يوليو/ تموز المجيدة بعد ستة أشهر من ثورة (25) يناير(2011) التي يمكن اعتبارها بمثابة إعادة لضخ الدماء في شرايين الأهداف التي قامت من أجلها ثورة (1952) وإحياءً لأمال وطموحات الملايين من المصريين الذين تجمعوا سوياً على قلب رجل واحد بميدان/ التحرير مطالبين بتحقيق المزيد من الحراك السياسي الديموقراطي، تلك الملايين، التي نجحت في تحقيق أهدافها بصورة متحضرة تحاكى عنها العالم أجمع وسقط في سبيلها العديد من الشهداء الأبرار الذين فقدوا أرواحهم دفاعاً عن تلك اللحظة التاريخية التي عادت فيها مصر إلى أحضان أبنائها.
ولعل تزامن هذه الذكرى الـ (59) للثورة مع الزيارة التاريخية الأخيرة التي قام الدكتور/عصام شرف للبحرين يوم (5) يوليو الجاري وإن - كان يُعطيها المزيد من الرونق والزخم في اتجاه التأكيد على ثوابت الماضي العريقة العالقة في خواطر كل العرب والمصريين، فهو يحفزها ويحفزنا إلى المضي قدماً بأقدام ثابتة نحو المستقبل المضيء الذي يُعيد لمصر أمجادها السابقة ويُعيدها مرة أخرى دورها الريادي العربي والإفريقي، ذلك المجد الذي يتطلب منا جميعاً عرباً ومصريين الوقوف صفاً واحداً لحماية مكتسبات (25) يناير ومساعدة مصر في مواجهة الفتن والمؤامرات التي تستهدف الإطاحة بكل ما تحقق من منجزات.
القارئ العزيز،،،
إن احتفالنا واحتفال مصر وشعبها الأبي هذه الأيام بالذكرى التاسعة والخمسين لثورة يوليو المجيدة وهي تعيش مخاض ثورة شعبية قادها الشباب في 25 يناير/ كانون الثاني هذا العام إنما يأتي لٌيضيف صفحة جديدة إلى صفحات تاريخ مصر، ذلك التاريخ الذي سيُضاف إليه اليوم الذي ولدت فيه ثورة جديدة نعتها العالم بأنها فريدة في تاريخ الثورات البشرية، وكانت أنشودة الشباب فيها «ارفع رأسك فوق... أنت مصري».
فليس ثمة شك فيما تُمثله ثورة (25) يناير من امتداد لثورة يوليو، سواء من حيث كونها قامت على نهجها ومبادئها أو لاشتراكها في كثير من الأهداف والتي من أهمها إرساء الديمقراطية وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وكل هذه الأمور تجعلني من هذا المقام - وبكل ثقة - أدعوكم جميعاً لمساندتها ودعمها لكى تضحى نبراساً جديداً يحتذى ويُعيد إلينا أمجاد القومية العربية التي افتقدناها منذ الستينيات والسبعينيات من هذا القرن.
المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقيادة مرحلة دقيقة
لقد قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر - ومازال - بقيادة البلاد خلال تلك المرحلة الدقيقة وبالغة الحساسية التي تمر بها مصر، حاملاً العديد من المعاني والدلالات التي تُرسخ مجدداً التقاليد الثابتة للعسكرية المصرية وتاريخها المشرف في دعم طموحات شعبها، في الحرب والسلام، وهو الموقف الذي لم يخضع يوماً لحسابات مصالح آنية، أو مساومات من هنا وهناك.
ففي لحظة فارقة في تاريخ مصر... لم تخذل القوات المسلحة طموحات شعبها، وانحازت بشجاعة إلى مطالبه العادلة في التغيير والإصلاح والعدالة الاجتماعية، ورفضت أن تطلق رصاصة واحدة ضد أي متظاهر، فكان أول مواقفها... أداء التحية العسكرية لشهداء الثورة، وبعدها... بدأ المجلس عملاً دؤوباً ومتواصلاً في سبيل الاستجابة لتطلعات الشعب المصري في المجالات كافة، ومكافحة الفساد، وتهيئة الظروف لتنشيط الاقتصاد للوفاء بمطالب وتوقعات المواطن، وإعادة توظيف السياسة الخارجية في بعديها العربي والإقليمي والدولي، بما يؤمن مصالح مصر في كل الاتجاهات، وقد اتخذت تلك الجهود ثلاثة أبعاد رئيسية:-
البعد الأول: دعم الديمقراطية الناشئة حتى تؤتي ثمارها بدولة مدنية قوية تحتل المكانة اللائقة لحضارة هذا البلد العريق، حيث لم يدخر المجلس وسعاً في الاستجابة لتطلعات الشعب المصري للديمقراطية، وتمكن خلال فترة وجيزة من تحقيق نجاحات لافتة في هذا السياق، ومن أهمها:
• الانفتاح على مختلف القوى السياسية، بهدف الوصول إلى توافق وطني حول المرحلة المقبلة، وهي الخطوة التي مهدت - لاحقاً - لإجراء الحوار الوطني بمشاركة ممثلي مختلف الأحزاب والقوى السياسية وشباب الثورة والمفكرين والشخصيات العامة.
• تشكيل لجنة قانونية لتعديل بعض المواد الدستورية التي كانت مثار جدل، وذلك فب أعقاب حل مجلسي الشعب والشورى وتعطيل الدستور، والإعلان عن استمرار المجلس في إدارة البلاد لمدة 6 أشهر أو حتى إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
• إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية، رغم الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية الصعبة، حيث استطاع المجلس أن يعبر بمصر خطوة كبيرة نحو الديمقراطية بإجراء استفتاء ناجح، يوم 19 مارس/ آذار 2011، على تلك التعديلات التي تمهد الطريق لإجراء انتخابات ديمقراطية وإنهاء قانون الطوارئ.
• إصدار إعلان دستوري يحدد معالم الفترة الانتقالية، التي ستقود إلى سلطة جديدة ودولة مدنية حديثة، ففي ضوء نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، أصدر المجلس يوم 30 مارس 2011، «الإعلان الدستوري» الذي تضمن 62 مادة، والذي أكد على مبدأ سيادة القانون وتعديلات قانون الأحزاب واستقلال القضاء، وأن مصر جمهورية نظامها ديمقراطي، وجزء من نسيج الأمة العربية، وأن الإسلام دين الدولة الرسمي، واللغة العربية هي الرسمية والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وأن الشعب مصدر السلطات.
• إصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، اعتبره المراقبون والمختصون ودوائر صنع القرار داخلياً وخارجياً خطوة مهمة وقفزة كبيرة نحو الديمقراطية، حيث تضمن أن يكون إنشاء الأحزاب بالإخطار، وإلغاء الدعم المالي المقدم للأحزاب، والذي كان سبباً في إنشاء أحزاب ورقية ليس لها أي دور في الحياة السياسية، كما وضع ضوابط لإنشاء الأحزاب، أهمها: عدم قيام الأحزاب على أساس ديني، وعدم احتواء وسائل الحزب على إقامة أي نوع من التشكيلات العسكرية، وعلانية مبادئ الحزب وتنظيماته ومصادر تمويله.
• إلغاء مباحث أمن الدولة، والذي كان واحداً من المطالب الرئيسية لثورة 25 يناير، وإنشاء قطاع جديد بدلاً منها في وزارة الداخلية تحت مسمى «الأمن الوطني»، يتحدد دوره في الحفاظ على الأمن الوطني والتعاون مع أجهزة الدولة لحماية الجبهة الداخلية ومكافحة الإرهاب، وفقاً لأحكام الدستور والقانون ومبادئ حقوق الإنسان.
• إعداد مشروع قانون جديد للعمل النقابي، يطلق الحريات النقابية وينحاز لمصالح العمال، حيث يسمح مشروع القانون - الذي استند إلى الاتفاقيات والتوصيات الصادرة عن منظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية التي وقعت عليها مصر - بالتعددية النقابية، سواء للعمال أو أصحاب الأعمال.
البعد الثاني: حماية الوحدة الوطنية والنسيج الوطني للأمة ضد محاولات تمزيقه، والحفاظ على قوته التي تميز بها على مدار آلاف السنين، لاسيما، في ضوء سلسلة الأحداث التي شهدتها مصر بعد الثورة، وتضمنت أعمال عنف لا تعبر عن الوجه الحقيقي للعلاقة الطيبة التي جمعت بين المسلمين والأقباط عبر التاريخ، وهو ما دفع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى اتخاذ عدد من الخطوات التي استهدفت حماية الوحدة الوطنية والتصدي للعنف الطائفي، والتصدي لكافة محاولات المساس بدور العبادة، وهي:-
• مناشدة المجلس في معظم الرسائل الصادرة عنه، كل طوائف الشعب وشباب الثورة والقوى الوطنية وعلماء الدين الإسلامي والمسيحي «أن يكونوا كالبنيان المرصوص في التصدي لمحاولة تمزيق نسيج الأمة والتي تسعى إليها قوى الشر والظلام».
• إحالة المتهمين في الأحداث ذات الأبعاد الطائفية، إلى محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، لتوقيع العقوبات الرادعة على المتهمين، والتنفيذ الحازم، في إطار من الشرعية القانونية واحترام حقوق الإنسان.
• إنشاء لجنة لتقدير التلفيات التي تحدث نتيجة تلك الأحداث، وإعادة كافة الممتلكات ودور العبادة إلى ما كانت عليه قبلها.
البعد الثالث: إعادة توظيف السياسة الخارجية في بعديها العربي والإقليمي والدولي، بما يؤمن مصالح مصر في كل الاتجاهات، وبما لا يتعارض مع التزامات مصر التاريخية تجاه القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ناهيك عن العديد من الملفات الخارجية الهامة المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأمن القومي وشهدت على مدى الأشهر الست الماضية حراكاً خارجياً فعَّالاً، من أهمها:
• مد جسور التعاون مع الدول الإفريقية والتواصل مع دول حوض النيل عبر الدبلوماسية الشعبية، وغيرها من التحركات الدبلوماسية والشعبية، ما ساهم في حدوث انفراجة كبيرة في أزمة ملف مياه النيل.
• التمكن - في سياق جهودها المتواصلة والمخلصة في مساندة القضية الفلسطينية وتحقيق وحدة الصف الفلسطيني - في إقناع حركتي «فتح» و «حماس» بالتوقيع على «وثيقة الوفاق الوطني» بالقاهرة يوم 3 مايو/ أيار 2011، وهي الخطوة التي أنهت حالة الانقسام الفلسطيني/الفلسطيني الذي استمر أكثر من أربعة سنوات، في ظل جمود اقتصادي ومتاعب اجتماعية وعدوان إسرائيلي متواصل.
• تأكيد الحرص على فتح صفحة جديدة في العلاقات مع دول العالم كافة، وبما لا يخل بالتزامات مصر تجاه أمن ومصالح دول الأمة العربية والإسلامية، والتأكيد على أن أمن الخليج العربي خط أحمر لأمن مصر القومي لا يسمح المساس به.
إخواني الأعزاء،،،
نحن اليوم، نواجه تحديات جاثمة تستهدف تقسيم العالم العربي وتحويل الشرق الأوسط إلى دويلات متفرقة بما يهدف أغراض ومصالح محددة، وهى التحديات التي تستوجب علينا توحيد الصفوف وتنسيق المواقف وتنقية الرؤى حتى يتسنى لنا المواجهة ومقاومة هذه التوجهات.
ويا إخواني المصريين،،،
أسألكم ونحن نحتفل بذكرى ثورة (23) يوليو المجيدة ونعيش مخاض ثورة (25) يناير الفتية، أن تنبذوا الخلافات وأن تقفوا صفاً واحداً أمام العدو المشترك الذي يستهدف أمننا واستقرارنا، وأرجوكم أن تهنأوا بهذه الثورة وتعملوا وكلكم تصميم من أجل رفعة مصرنا.
وأوجه التحية والإجلال إلى الضباط الأحرار قادة ثورة يوليو الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم لإنجاح الثورة المجيدة، وأدعوكم في الختام للوقوف تحية وإجلالاً لأرواح شهداء ثورة (25) يناير التي كرست قيم الديمقراطية والكرامة شعاراً لها وجعلت منها نقطة تحول في مسار الشعب المصري والشعوب العربية، فهي كلها أهدافاً نبيلة يتوجب ألا تضيع هباءً
إقرأ أيضا لـ "محمد أشرف حربي"العدد 3235 - السبت 16 يوليو 2011م الموافق 14 شعبان 1432هـ