العدد 3228 - السبت 09 يوليو 2011م الموافق 07 شعبان 1432هـ

حفريات الذاكرة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

لي صديق كانت بينه وبين مديره الذي عمل معه قبل ست سنوات مشكلة في العمل، وبعد صراع طويل اضطر إلى ترك وظيفته والبحث عن أخرى. كلما قابلته أعاد على مسامعي تلك القصة، وعندما أطلب منه التوقف عن سردها والشكوى من مديره، يوبّخني قائلاً بأنني لم أكن معه في تلك الأيام العصيبة ولذلك لن أستطيع أن أفهمه.

صديقي هذا وغيره كثر يضيعون أوقاتهم وأوقات من معهم، إلى جانب أنهم يعطون من يجالسهم جرعات من السلبية يفوق تأثيرها مخدر الهيروين. إن الإنسان كائن يقتات على الوقت، يعشق التنقيب في ذكرياته، ويتلذذ بتذوق مرارتها، والباحث في أنقاض ذكرياته كعالم الآثار الذي يزيل الرمال المتكدسة فوق حفريات لا تُعدّ أعمارها بالسنين فقط، بل بعمق التصدعات التي تتغلغل فيها.

يعتقد البعض أن للذاكرة لعنة مثل لعنة الفراعنة، إلا أن الذكريات لا تصب اللعنات، نحن فقط من لا يحترم خصوصيتها. ثمة ذكريات تُطفئ النار في داخلنا، وثمة ذكريات تُطفئنا. بعض الذكريات تعيد صياغتنا، إنها الذكريات مع من نحب، وبعضها تهيل التراب على قلوبنا، إنها الذكريات بعدهم.

الذكريات تُفْرِغُ الواقع من طفولته، وتمنحه وقاراً فوق ما يحتمل، وتسلب منه قوس قزح بألوانه السبعة لتحيله لوناً واحداً. عندما تقترب الذكريات منا تصير الألوان أكثر دفئاً، وعندما تبتعد يصير قوس قزح شفافاً كالمطر الذي أتى به. وجه الشبه بيننا وبين قوس قزح أنه يحتاج إلى النقيضين، الماء والشمس حتى يظهر، ونحن نختزل في داخلنا كل أنواع التناقضات حتى نستمر. قوس قزح أشبه الأشياء بالإنسان، لا يكاد يكتمل حتى يتلاشى مرةً أخرى.

عندما يكتب الإنسان ذكرياته فإنه يوقّع على شهادة انتحاره، فبعض ما نكتبه يعود ليمحونا دون أن نشعر. مازال الإنسان يخبئ ذكرياته في دفاتر يجمعها في قاع أحد أدراج مكتبه ويكدّس فوقها أنواعاً مختلفة من الترّهات حتى لا يراها الآخرون، وأتساءل هنا: «لماذا ندوّن ما نخشى منه؟» إن من يخشى من ذكرياته يضل طريق المستقبل، ومن يستحي منها يعجز عن العودة إلى الحاضر.

لا يمكن للإنسان أن يواجه ذكرياته، كما أنه لا يجب عليه أن يهرب منها، فالذكريات كالأمراض، تصيبنا عندما نخاف منها. عندما نتقبّل أمراضنا وذكرياتنا فإنها تفقد السيطرة علينا. إن أقوى سلاح ضد الظلم هو الابتسامة. ابتسم في وجه ذكرياتك وآلامك حتى تُفقدها رهبتها.

الذكريات هي ثمار الأمنيات، فما نقطفه منها قبل موسمه يصير مُرّا، وما ننساه على الأغصان ينضج أكثر من اللازم فيُثقِل كاهل الأشجار. الأشجار قلوبنا، والمزرعة حياتنا التي تتسع رقعتها كلما ضاق الوقت. حتى تختار ذكرياتك اختر أمنياتك أولاً، ولكي تفعل ذلك اختر من يستحق أن يحلم بها معك.

إن الذكريات هي أول نقطة في اللانهاية، والأمنيات هي النقطة الأخيرة، ومن يسعى بينهما عليه أن يعلم بأن الطريق الأقصر هو إعادة المحاولة. لا يمكنك أن تكرّر نفس الأشياء وتتوقع نتيجة مختلفة، ولكن عليك أن تتوقع نتيجة مختلفة حتى تمارس أشياء جديدة.

الذاكرة تشبه قبواً في منزل أحدنا، يلجأ إليه في حالات الحروب والكوارث على الرغم من شُحّ الضوء والهواء. ثمة مَن يبني قبوه في داخله، وثمة من قبوه هي الدنيا كلها. إن من يعيش في الظلام لن يعرف كيف يموت في النور.

الذاكرة مرحلة من الوجود تباغتنا فلا يعود للمكان قيمةٌ تذكر، فبعض الذكريات تصنع المكان أكثر مما يصنعها.

التذكّر نرجسية وجودية، يغرق الإنسان خلالها في التبتّل بذكرياته ويؤمن بأنها صحيحة ويصر على أنها من صنعه هو. هل فكرتَ يوماً بأن ذكرياتك صنعها غيرك؟

الذاكرة برزخ الوقت، لا يدري أحدنا هل هو موجود فيها أم أنه يطفو على سطحها كضباب يستلقي على خَدّ بحيرة هادئة، وكل ما نعلمه هو أننا حين نتذكر فإننا نعيش في الفراغ.

الذاكرة تشبه المِرآة في صدقها، ولكنك مهما حاولت جاهداً فإنك لن ترى نفسك فيها. إن من يهرب من ذكرياته كمن يملأ وجهه بمساحيق تجميل، كلاهما يُخفي الجانب المظلم من نفسه.

تتشابه ذاكرتنا مع ظلّنا، فالظلّ يرسم حدود أجسادنا، أما الذاكرة فإنها ترسم حدود أرواحنا، ولذلك علينا أن نكسرها حتى نفهم الوجود أكثر، وحتى نفهم أنفسنا أكثر. لن تفهم نفسك وأنت تتحدث معها بلغة الماضي، ولكي تفهم نفسك عليك أن تسيطر على ذكرياتك، فعندما تستعبدك الذاكرة فإنك تصبح مُلْكاً للسهر والبكاء. لا يمكنك أن تتخلص من ظلّك ولكن يمكنك ألا تخاف منه.

إن قَدْراً كبيراً من اللا واقعية ومن السخافة يكتنفان الذاكرة، ورغم إداركنا لهذه الحقيقة إلا أن خوفنا من الأعراف البشرية البالية يجعلنا ننكر وجودها. إن إنكارنا للحقائق لا يعني غيابها، بل يعني غيابنا نحن.

يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور: «إن التأمل يقلّل، للحظة، بؤس الناس ويحرّرهم من مأساة الإرادة». ليتني كنت معه لقلت له بأن التذكر هو عكس التأمل، ولذلك فإنه أسوأ إقطاعية يمارسها الإنسان تجاه نفسه، فالتذكر لا يسلب الناس إرادتهم فقط، بل إنه يفقدهم الرغبة في استرجاعها أيضاً.

ذكرياتنا ليست مقدّسة، وأشجع الناس مَن استطاع أن ينزع أوراق الذكريات البالية من مُفكّرته، وأكثرهم حكمة من اشترى مُفكّرة جديدة

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3228 - السبت 09 يوليو 2011م الموافق 07 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً