ربما يُنشر هذا المقال ويكون الوقت المتبقي عن بدء جلسات حوار التوافق الوطني أياماً عددها أقل من أصابع اليد الواحدة، والمزمع له أن يبدأ في الثاني من شهر يوليو/ تموز، وهو شهر الانقلابات الثورية في الخمسينات والستينات، أتذكر منها 23 يوليو في مصر، وانقلابي 14 و17 تموز في العراق، عدا الانقلابات التي ربما لم يتيسر لها النجاح وخصوصاً في سورية والعراق.
نتمنى أن يتمكن المتحاورون في هذا الشهر من إحداث انقلاب في تفكيرهم وأن يضعوا مصلحة الوطن فوق أي اعتبار مذهبي أو طائفي أو قبلي، وأن يكون الوطن ومفهوم المواطنة وحقوق المواطن بغض النظر عن طائفته وقبيلته وقوميته ماثلة أمامهم وخلفهم وأين ما اتجهوا.
هناك ثوابت وطنية يجب ألا تكون موضوع جدال بين المتحاورين، وألا تأخذ وقتاً طويلاً منهم، ونرى أن كل ما هو مطلوب منهم هو صياغتها في بنود تعبر عن الإجماع عليها، وقد يكون ذلك بداية تبشر بالنجاح في وصول المتحاورين إلى قواسم كثيرة متفق عليها، تضع لبنات صحيحة لانتشال الوطن من الهاوية التي وصل إليها، بل وتضع خطوطاً حمراً أمام من سيحاول تجاوزها مستقبلاً ومن أي طرف كان.
تتعدد الثوابت الوطنية، ولكن مهما تعددت وكثرت فإنها في المحصلة النهائية تشكل حاضنة وطنية للجميع يستظلون بها، ولا يجب أن يتجاوزها أحد، لأن في تجاوز أي منها إخلال بمعادلة العيش الوطني المشترك، لذلك فإن المتحاورين متى ما صدقت النية عندهم لن يختلفوا حولها، بل سيكون موقفهم الموحد هو تأكيد القواسم المشتركة للوحدة الوطنية. بعد أن يتفق المتحاورون على تلك الثوابت الوطنية، يمكن لهم أن ينطلقوا إلى جميع الملفات لأن حلها مرتبط بما إذا كانت الممارسات الجارية فيها على أرض الواقع تتفق مع تلك الثوابت أم تختلف وتتناقض معها، فإذا كانت تتفق فيجب التأكيد عليها وتعزيز الإجراءات التي تؤكد على كونها ثوابت وطنية، أما إذا كانت السياسات والإجراءات التي تتم على أرض الواقع تتناقض مع تلك الثوابت، فيجب البحث والاتفاق على الحلول التي تعالج ذلك التناقض وبما يعزز كونها ثوابت وطنية.
إن أبرز الثوابت التي هي ليست محل خلاف، وهي للأسف ذات صلة ببعض الشعارات التي رفعت في 14 فبراير/ شباط وما بعده، وأدت إلى بروز انقسام وطني وتوتر طائفي، بل وسرقت المطالب الشعبية المحقة التي هي محل شبه إجماع وطني، حيث كان التطرف في تلك الشعارات التي تجاوزت ثابتة وطنية مهمة لا يمكن تجاوزها.
إن هذه الثابتة أكدها ميثاق العمل الوطني الذي نال شبه إجماع وطني، وكذلك الدستور، الذي وإن اختلفنا حوله، إلا أن الثابتة المذكورة ليست محل خلاف أو جدال.
هذه الثابتة المهمة والأبرز هي شرعية الحكم في أسرة آل خليفة، لذلك فإن أية مطالب أو أعمال تتجاوز هذه الثابتة هي مرفوضة وطنيّاً ودستوريّاً، ولن يحتاج المتحاورون إلا إلى ثوانٍ معدودة لتأكيد المؤكد. ومن هنا نقطة تبدأ عندها الثقة بين أطراف الحوار. علينا أن نكون واضحين وضوحاً لا لبس فيه مع من يقول خلاف ذلك ويعمل على خلاف ذلك أنه خارج ثابتة وطنية مجمع عليها شعب البحرين.
ثاني هذه الثوابت التي نراها هي ثابتة حقوق الإنسان، وهذه الثابتة ليست وطنية فحسب بل هي ثابتة عالمية إنسانية، ولا نعتقد أن هناك أحداً من بين المتحاورين يرفض هذه الثابتة في عنوانها العريض، اللهم إلا في بعض التفاصيل الصغيرة أو في بعض المحاور التي قد يراها البعض أنها تتناقض مع بعضٍ من قناعاته، لكن تظل المحاور الأساسية لحقوق الإنسان لا يمكن لأحد أن يكون في تضادٍّ معها.
المطلوب هو وقوف المتحاورين أمام كثير من الملفات التي تُدار بشكل يخالف ثوابت حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ نجد أنه على الصعيد النظري الجميع يرفض ويدين أساليب التعذيب المدعى بها كوسيلة لانتزاع المعلومات، وبالأحرى قد تكون وسيلة للانتقام والإهانة. هذا الملف ليس وليد الأحداث الأخيرة بل هو ملف قديم جديد بامتياز، ملف يحتاج إلى مصالحة وطنية صادقة ترمم الجروح التي يصعب علاجها لدى الذين تعرضوا للتعذيب. أقول إنه ملف قديم جديد لأن تجربتي الشخصية تدعوني إلى التصديق، بل إن التعذيب الذي تعرضنا له لم يكن هدفه الوصول إلى معلومة، بل كان هدفه تركيب جريمة علينا لا صلة لنا بها، فعلى رغم مرور قرابة ثلاثة عقود لما تعرضت له والعديد ممن كانوا معي لأبشع أنواع التعذيب أدت إلى استشهاد البعض منهم، فإن ذلك ظل حاضراً معي لا يمكن لي أن أنساه أو أتجاوزه، لذلك فإن هذا الملف يجب أن يكون حاضراً عند مناقشة كل ما هو له علاقة بحقوق الإنسان، ولا مجال للنفي والنكران لأنه ثابت على رغم محاولات النفي والنكران.
الثابت أنه بعد 14 فبراير وحتى الآن هناك الكثير مما تم ولا يزال يتم من ممارسات وإجراءات على الأرض يتناقض ويتنافى مع مبادئ أساسية لحقوق الإنسان، لا مجال لتبرير هذه الإجراءات وهذه الممارسات، لذلك وتنفيذاً لهذه الثابتة يجب وقف هذه الإجراءات والممارسات في الحال، ذلك هو ما سيعزز سير الحوار نحو النجاح، وهنا تلعب السلطة دوراً محوريّاً لأنها هي من يقوم بهذه الإجراءات أو يشجع عليها وهي من يملك ورقة وقفها وتجاوزها.
الثوابت الوطنية بعناوينها المتعددة كثيرة، ولكن الممارسات على صعيد الواقع من مختلف الأفرقاء تخالف تلك الثوابت، وهي عنوان لأزماتنا المستمرة. لو سألت أي طرف من الأطراف التي ستشارك في الحوار وكذلك التي لن تشارك، بل لو سألت أي مواطن هل هو ضد أو مع، لحصلت على جواب واحد غير مختلف ألبتة، ولكنك ستجد كل طرف أو كل فرد يلجأ إلى التبريرات الواهية أو لمحاولة نفي التهمة عن نفسه؛ لذلك نحن نحتاج من المتحاورين إلى الصدق مع الخالق بداية ومع الوطن ومع النفس، ومن دون محاولات التخوين والدس، وأن تكون النية متجهة إلى مصالحة وطنية حقيقية بما يبني وطناً يحقق المواطنة الكاملة، والتي تحقق الأمن والطمأنينة للجيل الحالي والأجيال المقبلة، ففي ذلك وحده نحمي الوطن من الانقسامات، وبذلك وحده نخلق وطناً آمناً موحداً مزدهراً يتمتع فيه مواطنوه بجميع حقوقهم المشروعة المرتكزة على الثوابت الوطنية
إقرأ أيضا لـ "شوقي العلوي"العدد 3217 - الثلثاء 28 يونيو 2011م الموافق 26 رجب 1432هـ