ركب طارق القطار في المحطة المركزية في شيكاغو عائداً إلى (دنفر) في ولاية كولورادو؛ حيث يعيش بعد أن أنهى زيارة عائلية إلى أخته التي تقيم في شيكاغو مع زوجها.
بعد انطلاق القطار، صعدت في المحطة التالية امرأة عجوز جلست إلى جانبه بدت له في الستين من عمرها. أومأ لها يحييها وأفسح لها مجالاً للجلوس بعد أن جلس هو بجانب النافذة ليراقب حركة الشوارع، والجبال، والوديان التي يمر القطار عبرها. نظر إلى الساعة كانت نحو التاسعة صباحاً، أسند رأسه إلى الخلف وراح يقلّب دفتر الماضي أمام مناظر الطبيعة الخلابة.
بعد نحو أربع ساعات نظر إلى ساعته مرة أخرى، ثم وقف واستأذن ممن تجلس بجانبه وذهب إلى الحمام فيما كانت هي مشغولة بقراءة كتاب صغير تحمله في حقيبتها كان على ما يبدو رواية لكاتب أميركي.
بعد عودته من الحمام حيث توضأ، قرر إقامة الصلاة جالساً لأنه يتعذر إقامتها واقفاً، فقد كان حريصاً دائماً أن يقيم الصلاة في مواعيدها حيث أمكن.
بدأ يتمتم بصوت منخفض:
- الله اكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله...
حرك يديه ووضعهما على وسطه، وبدأ يقرأ الفاتحة في سره بعد أن أغلق عينيه خاشعاً.
عندما انتهى من صلاته سلم على الجانبين، فانتبه أن العجوز ليست بجانبه، لقد غادرت مكانها بعد أن اشتبهت بحركاته. انتظرها لتعود فلم تعد، لعلها قررت عدم الجلوس بجانب مسلم، لكن حقيبتها لاتزال مكانها، استغرب وقال لنفسه:
- هكذا النساء يقضين وقتاً أطول في الحمام.
وصل القطار محطة جديدة في الطريق؛ حيث سيتم إنزال ركاب وتحميل آخرين، بعد أن توقف القطار لمح طارق شيئاً غريباً في المحطة، رجال كثيرون موزعون شكلهم غريب، ينتظرون وصول القطار، لم يكن بينهم امرأة أو طفل أو رجل عجوز.
المرأة التي بجانبة لم تعد، هل ماتت؟!
فجأة فتح الباب وقبل أن يخرج الركاب من بعض العربات تدافع الرجال إلى داخله، وبحركة سريعة كانوا فوق رأسه يرفعون مسدساتهم:
- ارفع يديك.
- شرطة لا تتحرك.
-اخرج من مكانك ونم على الأرض.
- اجلس.
- قف.
- أين القنبلة.
- من معك؟
- ما اسمك؟
لم يعرف لمن يستمع، وعلى من يرد. لقد كانت الأوامر لسرعتها، وتضاربها، ولهجتها الحازمة تثير الخوف في نفسه فلم يعد يعرف ماذا يفعل.
رفع يديه إلى الأعلى مستسلماً ولم يتحرك من مكانه، فجذبه أحد أفراد القوة المهاجمة من مقعده وألقاه أرضاً، فيما كانت عشرات الأرجل فوق رأسه وجسمه والمسدسات والبنادق موجهة إليه، فيما تدافع الركاب كلهم إلى الخارج.
فتشوا ملابسه وجسمه بشكل دقيق وبعد التأكد أنه لا يحمل شيئاً كبَّلوه وجرُّوه إلى سيارتهم يستجوبونه عن حقائبه، والجهة التي يعمل لحسابها، لكنهم فوجئوا أن طارقاً لم يكن عربياً؛ بل أميركياً أبيض من أصل أوروبي أعلن إسلامه منذ سنوات وغيَّر اسمه بعد إسلامه. صرخ فيهم أثناء التحقيق:
- أيها العنصريون، لماذا تصفونني بالإرهابي؟ ألأنني مسلم كان يصلي في القطار دون أن يزعج أحد؟! ماذا لو كان يهودياً يصلي في القطار؟ أومسيحياً هل تهاجمونه بهذا الأسلوب الفظ؟
محطات التلفزة الأميركية تناقلت خبر إلقاء القبض على إرهابي مسلم يحاول تفجير القطار المتجه إلى (دنفر).
حوار مباشر مع المرأة العجوز التي كانت تجلس بجانبه قالت رداً على سؤال لأحد الصحافيين:
- أشكر الرب أنه أنقذنا منه. كان يجلس بجانبي ويتمتم الله أكبر الله أكبر. ويحرك رأسه مرة إلى الأعلى وأخرى إلى الأسفل، فشعرت أن ساعة النهاية قد اقتربت.
كان كل فترة ينظر إلى الساعة مع أنه مسافر إلى (دنفر) كأنه ينتظر لحظة انفجار القطار. أوه لقد أنقذنا المسيح منه شكراً له.
صور طارق (الإرهابي) في كل مكان، زوجته في (دنفر) تحاول الاتصال به دون جدوى أما محاميه فقد عجز عن اللقاء به حتى اليوم الثالث؛ حيث تم إحضاره إلى (دنفر).
في بيته داهمت قوة من رجال الأمن بيته وصادرت الحاسوب وأوراقه كافة، وصوره.
عندما التقاه المحامي في اليوم الثالث بدأت تتضح صورة التحقيق أكثر فقال له:
- طارق آسف لما حصل معك، هؤلاء الكلاب منذ الحادي عشر من أيلول لا يعرفون ماذا يفعلون، يلاحقون الأبرياء ويتركون المجرمين تسرح وتمرح.
على كل حال إنهم يعرضون عليك ما يأتي:
- أن يطلقوا سراحك مقابل تعهدك ألا تلتقي بالصحافة وألا تثر الموضوع قضائياً، وإلا سيقدمون لك لائحة اتهام من عشر نقاط أبرزها الانتماء لجماعة إرهابية.
- أنا؟ أتحداهم أن يثبتوا ذلك.
- أنت صادق لكن حتى تنتهي المحكمة وتقرر برائتك ستظل في السجن، ولا تعرف ماذا يخبئون لك من مفاجئات فقد يفبركون لك قضية ملفقة ويأتون بشهود يشهدون ضدك حينها ستسجن لسنوات طويلة وإن برأتك المحكمة فلن تكون بريئاً في أعين الناس لكن خروجك دون محاكمة أفضل لك. أنصحك بالموافقة على عرضهم.
- وسمعتي، وصوري التي تملأ كل مكان.
- سيعلنون للصحافة أنك بريء وأنهم لم يجدوا أي شيء معك يدينك، لكن ليس المهم أن يعلنوا، المهم عندك أن تذيعه قنوات التلفزة بالإثارة نفسها التي نشرت فيها خبر إلقاء القبض عليك.
وافق طارق مكرهاً على ذلك وتوقع فور خروجه من السجن أن يجد مراسلي الفضائيات، ومحطات التلفزة بانتظاره لتنقل خبر براءته، لكنه لم يجد أحداً سوى زوجته، وبعض معارفه.
في اليوم التالي اتصل ببعضهم يطلب منهم نشر الخبر، فردوا عليه أنهم سينقلون طلبه للمدير، ولايزال ينتظر ردهم
إقرأ أيضا لـ "عادل سالم"العدد 3201 - الأحد 12 يونيو 2011م الموافق 11 رجب 1432هـ