في نهاية يناير/ كانون الثاني 2011م خرجت الجماهير المصرية في تجاوب للزلزال التونسي...ولكن السؤال الملح: لماذا تثور الشعوب؟ بل كيف تمرض بالأصل؟ إن هذه المسألة تحتاج إلى تفكيك.
يذكر الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنغلر OSWALD SPENGLER)في كتابه أفول الغرب (DER UNTERGANG DES ABENDLANDES ) أن مصير روما تقرر في معركة (زاما) العام 164 قبل الميلاد فقد «استنفدت روما آخر طاقة حيوية لها»، ثم يتساءل كيف أمكن لروما بحفنة من الألوية رديئة التسليح رديئة القيادة أن تضع يدها على مقدرات العالم القديم؟
ويجيب (شبنغلر)على ذلك بأن روما وضعت يدها في الواقع على شعوب «فقدت قدرة تقرير المصير» فهي كانت سلعاً معروضة مغرية لأي مغامر أن يضع يده عليها. ويسميه اللصوص المال الداشر؟ وهو حال البلاد العربية مع نهاية بني عثمان واندثارها مع الحرب العالمية الأولى، فالتهم بلاد العروبة الطليان والألمان والفرنساوية والبريطان؟ بل ربما كان سبب اندلاع الحرب التهارش الاستعماري مثل مجموعة من الضواري تتعاور فريسة ميتة؟.
جاء في الحديث أن الأمة ستصبح وليمة (قصعة) فاخرة يدعى لها الناس للأكل «تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها».
والسؤال: كيف تصل الأمم الى حالة «فقدان القدرة على تقرير المصير»؟
نحن نعلم من الطب أن المرض يدخل أربعة مراحل؛ فهو يكون أولاً في حالة المعاوضة فإذا انكسرت دخل المريض المستشفى ويطلق عليها الأطباء المرحلة السريرية لأنه يعالج ضعيفاً في سرير يضمه في مشفى، فاذا اختلطت الحالة نقل الى العناية المشددة ووضع تحت العلاج المكثف والمراقبة الدورية الصارمة، فإذا انهارت الحالة فقصرت الوظائف الحيوية من القلب والرئة بدأ المريض في دخول عالم الغيبوبة وتم (تنبيبه Intubation) أي إدخاله في جهاز الانعاش بأنبوب في الرئة ومحاليل في الأوردة المركزية وهكذا.
وفي هذه الحالة من منظر غيبوبة الوعي يكون المريض مستسلماً بالكلية في عالم البرزخ لا حي فيرجى ولا ميت فينعى، ويبقى يتأرجح في هذا الوضع فإما فاز به ملك الموت، وإما نجح الأطباء فانتشلوه من لجة الموت، وعادوا به الى شاطئ العافية. ومن هذه المقارنة التاريخية والبيولوجية يبدو أن الأمة العربية دخلت هذا المعراج الخطير؛ فالأمة في حالة (غيبوبة تاريخية) يشهد لها جمهور مغيب الوعي في العناية المشددة التاريخية يفعل الاطباء ما يشاؤون في هذه الجثة.
إنها أمة فقدت «قدرة تقرير المصير» جاهزة أن يعلو ظهرها أي مغامر، كما اعتلى ظهرها ضباط البعث العبثيون، والعجل الناصري في أرض الكنانة، والشمال الأفريقي من عائلات مغامرة مسلحة، وضباط مجرمين، وشرطة شرسين كما ودع الشقي التونسي في 14 يناير/ كانون الثاني 2011م غير مأسوف عليه؟
ويذهب البعض الى اعتبار أن الأمة العربية جثة هامدة منذ أمد بعيد وهي في مرحلة التفسخ التدريجي...
ولكن أحكاماً من هذا النوع تحتاج الى «طب اجتماعي» يشخص بواسطة مسابر وآلات اجتماعية ليعطي حكمه على مصير الأمة.
ونحن نعرف أن الانسان عندما يموت يكفُّ القلب عن الخفقان ويتوقف التنفس ويصبح مخطط الدماغ صفراً، ولكن ليس عندنا من (المقاييس الاجتماعية) من الدقة ما نحكم على أمة أنها فارقت الحياة.
كما أن القضايا الاجتماعية ليست في دقة ووضوح ما وصلت اليه العلوم البيولوجية. ويزودنا القرآن بفكرة «موت الأمة» أنها حالة تقع «لِكلِّ أُمّةٍ أجل إِذا جاء أجلُهُم فلا يستأْخِرونَ ساعةً وَّلا يستقدِمون» (يونس:49) تماماً كما يحدث في موت الأفراد «وجاءتْ سكرةُ الموتِ بِالحقِّ ذلك ما كنتَ منه تحيد» (ق:19).
وإذا كانت المؤشرات على هذا النحو من السوء فهذا يضيف دفعة جديدة في مخطط الانهيار العربي، الذي أعلنه ابن خلدون في مطلع القرن الخامس عشر للميلاد بقوله في المقدمة «وكأن لسان الكون نادى بالخمول والانقباض فبادر بالاستجابة»؟
في الواقع بدأ مسلسل الانهيار أبكر مما أشار اليه ابن خلدون كما ذكر ذلك المفكر الفرنسي (لوي غارديه)، فقد انهار جناحا العالم الاسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، وفي فترة عشر سنوات في ضربة مزدوجة، سقطت اشبيلية العام 1248 بحروب الاسترداد الاسبانية.
كما تم حصد بغداد العام 1256 بالحصادة المغولية الزاحفة من الشرق.
ويبدو اليوم أن مخطط الانهيار الموجع نحو القاع لم ينتهِ بعد، وهو يعس كالمرض الخبيث في مفاصل الأمة العربية. وهذا لا علاقة له بالتشاؤم أو التفاؤل بل هو محاولة دراسة موضوعية واستقراء للوقائع التاريخية وتشخيصها.
وأمام هذا التقدم السيء نحو المصير المجهول يبدو أن تأملنا للمريض العربي في العناية المشددة التاريخية وهو في حالة غيبوبة عن الوعي في غياب الوعي الجماهيري، يستطيع المحلل الدقيق أن يضع يده على مجموعة من الأمراض.
إذا كان المريض العادي يعالج ضد قصور الكلية والتهاب الرئة وهبوط الضغط؛ فإن الأمة العربية تعاني من حزمة مكونة من عشرة أمراض على الأقل تشكل (متلازمة SYNDROM ) المرض العربي.
وهو مصطلح طبي ترجم الى تناذر أو متلازمة وهي مجموعة من التظاهرات المرضية تسم مرضاً بعينه وتميزه.
والمتلازمة العربية اليوم تضم حزمة محترمة من عشرة أمراض
إقرأ أيضا لـ "خالص جلبي"العدد 3199 - الجمعة 10 يونيو 2011م الموافق 09 رجب 1432هـ