العدد 3197 - الأربعاء 08 يونيو 2011م الموافق 07 رجب 1432هـ

شيخة

مهدي عبدالله comments [at] alwasatnews.com

.

شاءت الصدف أن نلتقي في ظرف عصيب وغربة عاتية، تمنيت الآن لو أن ذلك حدث في وقت أفضل وحال أرحب، لكنني أعتقد بأن تلك الظروف كانت السبب الرئيس في العلاقة الوطيدة التي ربطت بيننا وأنستنا بعضاً من المرارة وأحسب أنها ستبقى ذكرى عزيزة في كتاب حياتنا.

عندما هبطنا من الطائرة، استقبلنا الموظف المكلّف ورافقنا الى الفندق الذي وصفوه لنا ثم أعطاني رقم هاتف أحد ما وقال إنه سيساعدني في العثور على شقّة بسعر معقول، حيث من غير الممكن أن نقيم في فندق لمدّة قد تزيد على الثلاثة أشهر. كنت قد قدمت لعلاج ابنتي في هذا البلد باهظ التكاليف برفقة زوجتي وابنتي، وعلى علم بأن العلاج سيطول.

حينما اتصلت به أبدى سعادته وترحيبه وقال إنه سيسأل صاحب العمارة التي يسكن فيها عمّا إذا كانت هناك شقّة فارغة. وبعد عشر دقائق هاتفني مبشراً بوجود شقّة حتى نهاية الشهر ونصحني بأن أنتقل إليها لأن إيجارها أوفر بكثير من الإقامة بالفندق. شكرته على هذه البادرة وقلت إنني سآتي غداً لمعاينتها. وفي اليوم التالي، حينما أوصلنا التاكسي إلى عنوان العمارة، كان هو في الانتظار فسررت بالتعرف عليه. وبعد إلقاء نظرة عابرة على الشقّة أعربنا عن موافقتنا عليها فنصحني أن ننتقل فوراً لكي لا يحتسب علينا إجرة يوم ثان بالفندق.

علمت منه أنه جاء إلى هنا أيضاً لعلاج طفلته الصغيرة البالغة ثمانية أشهر والتي تعاني من نقص المناعة منذ ولادتها وعرفت أنها الابنة الوحيدة التي رزق بها بعد سنوات عجاف من الجدب والإنتظار اضطر في نهايتها إلى الزواج من امرأة ثانية، لكي تحقق حلمه وتزرع الفرح في صحراء حياته. شعرت بالأسى حينما أخبرني بأن الطفلة، بعد إجراء العملية، وضعت تحت العناية القصوى منذ نحو شهر لكنه استدرك بأن حالتها مستقرة.

نشأت بيني وبينه سريعاً علاقة حميمة فرضها وجودنا بعيدين عن الوطن وندرة البحرينيين في هذا البلد علاوة على معاناتنا المشتركة وتخوّفنا من نتائج العلاج، فكان يتصل بي يومياً يستفسر عن صحة ابنتي وكنت أنا أفعل الشئ نفسه . كذلك ارتبطت عائلتي مع زوجته برابطة ودودة؛ حيث دأبت الأخيرة على زيارتنا يومياً كما عرّفتها على عائلات أخرى قادمة للغرض نفسه.

كان حسن قلقاً جداً على حال ابنته ولا يخفي عليّ بأنه يبكي كثيراً كل يوم حينما يزورها في المستشفى. أعلمني بأن نسبة تنفسها الطبيعي آخذة في التناقص، فبعد أن كانت 70 في المئة قبل عدّة أيام أصبحت الآن 30 في المئة؛ ما اضطر الأطباء إلى ربطها بأجهزة التنفس الاصطناعي. كان رجلاً متديناً قارب الخمسين ولا يكف عن الدعاء والتوسل بالأئمة الأطهار لكي ينجيها الله من هذه المحنة.

في أحد الأيام خرجنا مع عائلته في رحلة ممتعة استقللنا خلالها الباصات السياحية الحمراء ذات الطابقين وتجولنا في ربوع تلك الجزيرة الخلابة ومبانيها الشاهقة وخضرتها الساحرة ثم ركبنا السفينة التي جابت بنا في خليجها البديع ومعالمها الفاتنة كما صعدنا التلفريك واستمتعنا بالمشاهد الرائعة من علو. قضينا يوماً بهيجاً لكن تضاريس الحزن والألم لم تفارق ملامحه، كان يقول إنه لا يحتمل مشاهدة صور طفلته التي التقطها لها بالفيديو والكاميرا ويشعر بالغصة عند رؤية لُعبها المفضلة.

كنا مجموعة من الرجال الذين نجتمع في أسفل العمارة مساء كل يوم فيما يشبه المجلس البحريني؛ حيث نسأل بعضنا عن بعض لنطمئن على صحة مرضانا، ونتنادم، ونتناول الشاي، ونقضي سهرات جميلة في التحدث عن همومنا وشتى الموضوعات.

ذات يوم، هاتفته لأستفسر عن أمر ما ففاجأني بنبأ تدهور صحة الصغيرة، قال إن الأطباء أخبروه بأن حالها خطرة وأنهم قد فعلوا كل ما بوسعهم من أجل إنقاذها. وفي اليوم الذي أجرت فيه ابنتي العملية التحضيرية للعملية الكبرى التقيته في المستشفى فقال، إن الأطباء أبلغوه يوم أمس أن ابنته ربما تفارق الحياة خلال ساعات، فبكى بكاءً شديداً وانهارت امرأته ورفعت يدها تبتهل إلى الله أن يحفظها من الموت، وأردف أن حالها اليوم أفضل من أمس. انتهزت زوجتي الفرصة وقامت بزيارة الطفلة، وهي زيارتها الأولى لها، لكنها عادت واجمة.

بعد رجوعنا إلى الشقة اتصلت زوجتي بالموظفة المسئولة عن رعاية ابنتي لتسأل عن أمر ما فأخبرتها - في سياق الحديث - بأن الطفلة شيخة قد انتقلت إلى جوار ربها منذ قليل. كان وقع الخبر كالصاعقة علينا؛ حيث لم نكن نريد أن نسمعه حتى لو كنا نتوقع حدوثه بين لحظة وأخرى.

سارعت زوجتي بالتوجه إلى شقتهم وقدمت واجب العزاء له ولامرأته، وبعد قليل كنا - نحن البحرينيين - نعظم له الأجر ونبدي حزننا الشديد تجاه مصابه. جلسنا معه في المجلس المفتوح قرب بركة السباحة، نواسيه ونخفف من آلامه. كان متجلداً بعض الشيء وقال إنه ذرف الدموع بما فيه الكفاية وأصبح الموضوع الآن أمراً واقعاً. جاء الزملاء الخليجيون الذين يقطنون معنا في العمارة وشاركوه المواساة وجبر خاطره. قال إنه يسترجع الآن ساعة ولادتها وكيف أن أصدقاءه أقاموا له حفلة على سطح إحدى البنايات العالية بالمنامة وكيف أنه من فرط سعادته ارتدى تجويف البطيخة الخضراء فوق رأسه.

الموظفون المسئولون عن رعايتنا تكفلوا بتجهيز الجثمان ونقله إلى المطار وحجزوا لهما للسفر في الليلة نفسها. أخذنا رقم هاتفه في البحرين وتواعدنا على التواصل معه وتمنينا أن يعوضه الله عما سلف.

كان مشهداً يفطر القلب وأنا مع بقية الزملاء نساعده في نقل الحقائب إلى أسفل العمارة ثم نشيعه إلى السيارة التي ستقلهما إلى المطار، وستظل تلك التجربة محفورة في الجبين طالما حييت

إقرأ أيضا لـ "مهدي عبدالله"

العدد 3197 - الأربعاء 08 يونيو 2011م الموافق 07 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 10:28 م

      العين صابتنا

      نعم نحن أهل البحرين طيبين . لكن العين صابتنا .

    • زائر 3 | 9:37 ص

      تعليق

      جميل ما خطه قلمك وستبقى نجماً يضيء سماء الأدب

    • عبدالله ميرزا | 6:36 ص

      اخى العزيز سلام عليك

      هذة البحرين واهلها كلها كرامه وشهامه وتعاون والفه وصلة ارحام وصداقه صادقه من القلب الى القلب
      اخى مهدى شكر على الموضوع ونرجوا المزيد من رذاذ قلمك العظيم والسلام عليك من متيم بحبك وحب قلمك الحرينى الاصليل
      ابو ابراهيم العالى

    • زائر 1 | 6:34 ص

      الصالحي

      اهل البحرين في الغربه دائما مثل الاهل يصيرون بغض النظر عن انتمائاتهم المذهبيه المهم بحريني او حتي خليجي ولا حتي يسال هل انت شيعي او سني فماذا حدث لنا هنا في البحرين؟

اقرأ ايضاً