أشرت في مقال سابق إلى الموقع المتزايد الذي تحتله، في عصرنا الراهن، التحليلات الثقافية في فهم التحولات الاجتماعية والعالمية، كما يدل على ذلك الانتشار الواسع الذي حظيت به، رفضاً وتقديراً، نظرية صدام الثقافات التي تحولت بسرعة إلى صراع الحضارات وأنتجت نقيضها: حوار الحضارات الذي تبنته الهيئات الدولية كبرنامج للتأليف بين المجتمعات والشعوب.
وذكرت في هذه المناسبة أنه، حتى عندما يكون للثقافة، كما حصل في جميع العصور والأزمان السابقة، دور متميز في تكوين المجتمعات، ذلك أنه لا وجود لجماعة متميزة من دون ثقافة خاصة بها، لا ينبغي النظر إلى الثقافة كما لو كانت قالباً جامداً أو ماهيةً ثابتةً تحدد سلوك الناس مسبقاً وتفرض عليهم خيارات خارجة عن نطاق التأمل والاختيار. وإنما يجدر التعامل معها باعتبارها مخزوناً متجدداً من القوالب والصيغ والاستعدادات والرموز والمعارف والتوجهات. فهي تعمل كما لو كانت علبة عُدة يضعها التاريخ والمجتمع تحت تصرف أفراده ليأخذوا منها ويستخدموا أدواتها حسب حاجتهم وظروف حياتهم وأهدافهم وميولهم الشخصية. وقلت إن نوعية هذه الأدوات والقوالب التي تختزنها الثقافة توحد تفكير أو بالأحرى أسلوب تفكير الناس إلى حد كبير، لكنها لا تحرمهم من حريتهم الأصيلة والأساسية التي ترتبط بمقدرتهم على الاختيار حتى داخل هذه الثقافة، ولا تمنعهم من تبني مواقف تختلف من فرد لآخر وجماعة ومن جماعة لأخرى، كما لا تحول دون بلورة استراتيجيات وحلول متباينة في مواجهة مشاكل متماثلة داخل المجتمع نفسه.
ثم إن وجود هذه الصيغ والقوالب والاستعدادات العقلية والاجتماعية العامة لا يمنع الأفراد من تكوين مخزونهم الخاص من القيم والرموز والاستعدادات، وبالتالي من امتلاك تفكير وسلوك مختلفين في المجتمعات ذاتها. بل بإمكاننا أن نجد، في إطار العقيدة أو الديانة نفسها، المتدين الذي يتمسك بحذافير العقيدة ولا يستطيع أن ينفصل لحظة عنها، والأقل تديناً أو الأكثر براغماتية في تعامله مع المبادئ والأخلاقيات الدينية، بل والمجرد من الدين. كما نجد المتدين السياسي الذي لا يرى في الدين إلا ما يساهم في تحقيق أهدافه السياسية، والمتدين الصوفي الذي يستخدم الطقوس الدينية مهما كان أصلها من أجل إغناء تجربته الروحية والتواصلية، والمتدين البسيط الذي يبحث في الدين عن الطمأنينة والرضا وضمان الآخرة وينزع إلى الاقتداء بما يرسمه له علماء الدين وفقهاء المذهب. كل هؤلاء يمتحون من مخزون رمزي وخيالي وأخلاقي ومعرفي وعقيدي «واحد»، أو ما يظهر على أنه كذلك.
وهنا، في هذه الحرية الجوهرية الأولى، أعني حرية المرء في الاختيار حتى داخل الثقافة الضاغطة الواحدة، واحتمال تجاوزها، والتجرؤ على الاختلاف عما كان سائداً في الماضي، بل عما هو سائد اليوم، وما يشكل تقليداً جماعياً قائماً، يكمن أصل التجديد والإبداع ومحرك التحول في سلوك الشعوب والمجتمعات.
والقصد أنه ليس هناك ثقافة جامدة لا تسمح بالتغير والتجدد، اللهم إلا عندما تكون الثقافة قد ماتت فعلاً، كما هو حال الثقافة الفرعونية أو البابلية أو الحميرية. ولا تموت الثقافة إلا عندما تموت النظم الاجتماعية التي عاشت في كنفها وكونت محور إلهامها وساحة تفكيرها ورهاناتها المادية والروحية. فيما عدا ذلك، يمكن للثقافة أن تتراجع وتتكلس وتنقطع عن الواقع الذي هو واقع حي ومتغير بالضرورة، وتنغلق على نفسها وتدور حول تقاليدها وقيمها وذكرياتها القديمة. وفي مثل هذه الأحوال التي تفقد فيها الثقافة دورها، وتترك لقانوني القوة والعصبية أمر التحكم بالأفراد وضمان خضوعهم وتعاونهم وانتظامهم، كما حصل خلال «حقبة الانحطاط» في التاريخ العربي، لا تموت الثقافة نهائياً ولا تخمد جذوتها. إنما تنضب ينابيع الإبداع فيها، جارّة معها المجتمع بأكمله نحو الانحطاط والإفقار. لكنها سرعان ما تستيقظ من سُباتها وتعود إلى الحياة حالما تشعر بأن هناك أفقاً جديداً قد انفتح. ونجد أنفسنا أمام استئناف دورة جديدة من التحول والتغير والإبداع الثقافي. وهذا بالضبط ما حصل للثقافة العربية أيضاً، وبالأحرى للمثقفين بالعربية، عندما بدأت معالم خراب السلطة الإمبراطورية العثمانية وسقوطها تظهر للعلن وتبرز في المقابل آفاق التحولات الجديدة ومعالم النظام الحديث.
الثقافة، بهذا المعنى، ليست قدراً، وإنما هي مستودع تجارب المجتمع والأمم. وهي مستودع غني بالأدوات والمفاهيم والأفكار والرموز التي يمكن تركيبها وإعادة تركيبها إلى ما لانهاية، حسب تبدل الأحوال وتغير الظروف، وبالتالي، وضمن حدود العدة الثقافية الموجودة، إبداع ما لم يكن مكتوباً سلفاً على جبين المجتمعات وفي ثقافتها الأولى من رؤى ونظم ومؤسسات. بل هنا يكمن سر الإبداع الإنساني.
فلا يأتي التجديد والابتكار والإبداع من النسق الثقافي الثابت، أو من المخزون الثقافي القديم بالتأكيد، إنه يأتي من الكشف عن إمكان تراكيب جديدة من نفس العناصر أو من عناصر جديدة ناجمة عن التفاعل مع الثقافات الأخرى، طالما أن المجتمعات لا تعيش في دارة مغلقة. هكذا تجد المجتمعات نفسها مضطرة إلى تغيير أسلوب عملها وتفكيرها للرد على الضغوط والتحديات المستجدة. بمعنى آخر يأتي الإبداع بسبب فشل النماذج القديمة التي تختزنها الثقافة في الرد على الحاجات الناشئة عن تطور الواقع الحضاري، ونتيجة تفاعل المجتمعات والفئات والأفراد.
والمحصلة أن ما تعيشه المجتمعات من حالات، بما في ذلك نوعية الثقافة التي تسيطر عليها وطبيعة القيم السائدة فيها، وأسلوب تعاملها مع الواقع، لا يترجم ماهية ثقافية ثابتة تحكم سلوكها وأفعالها وتتحكم بها آلياً، ولا يشكل أي تجلٍّ حتمي لروح ثقافية أو حضارية خاصة، ولا يعكس بنية عقول أبنائها أو نخبها، بل هو نتيجة تضافر ظروف طرأت وتطرأ عليها؛ بعضها داخلي وبعضها خارجي، هي التي ينبغي تحليلها وفهم آليات عملها إذا أردنا معرفة هذه الحالات أو تغييرها. وعندما نتحدث عن ظروف، فنحن ندخل في مفهوم الزمن والتاريخ. الثقافات والعقليات والنفسيات والذهنيات موجودة من دون شك، ومؤثرة بقوة في التاريخ، لكن شريطة أن لا ننسى أنها هي نفسها ظواهر تاريخية واجتماعية متحولة ومتبدلة. ولا تشذ المجتمعات العربية عن ذلك، بل هي أكبر مثال حي عليه
إقرأ أيضا لـ "برهان غليون"العدد 3192 - الجمعة 03 يونيو 2011م الموافق 02 رجب 1432هـ