في زيارة للصين للمشاركة في المنتدى الثقافي العالمي الأول الذي عقد في مدينة سوجو بمقاطعة جيانسو لمست مدى التجدد ولا أقول التغير في الحياة والفكر الصيني، الفارق بين التغير والتجدد كبير فكلاهما مفهومان مختلفان من حيث المضمون. التغير مفهوم شبه محايد، لأنه قد يعني الجانبين السلبي والإيجابي، أما التجدد فهو يعني التغير نحو الأحسن. ولعلني أشير إلى بعض تلك المظاهر ذات الصلة بالتجدد، أو إن شئت القول بالتحديث، في الصين على رغم وجود فارق أيضاً بين التحديث الذي هو عملية تغيير وتطوير للأمام وبين التجدد وهو إعادة النظر في الفكر الصيني التقليدي بل والحديث.
الفكر الصيني التقليدي اتسم بنوع من الاستاتيكية أو الجمود، والفكر الحديث اتسم بنوع من النظرة السلبية للماضي، كما حدث في عهد ماوتسي تونغ، وخاصة في فترة الثورة الثقافية. التجدد القائم على إعادة النظر هو إعادة الدراسة والتقييم للجديد والقديم على حد سواء، والانطلاق لمرحلة أكثر حداثة، أو ما أطلق عليها الفيلسوف الألماني الشهير فردريك هيغل التوليفة الجديدة ما بين الفكرة ونقيضها، وهذه تأليف امتزاجية تماماً، وليست مجرد تجميع تلفيقي لعناصر مختلفة وأحياناً متنافرة كما أطلق عليها أستاذ ومفكر عربي حديث هو محمد جابر الأنصاري في عدد من مؤلفاته عن الفكر العربي والتي برزت بوجه خاص في مشروعه الفكري.
التجديد الصيني هو عملية انصهارية بحيث ان الجديد ليس منفصلاً في مكوناته عن كل من الماضي والحاضر، وفي الوقت نفسه يتطلع نحو المستقبل بأفق غير محدود، أي عملية تصاعدية مستمرة. تلمس ذلك في الفكر السياسي والاقتصادي كما تلمسه في الثقافة وفي الحياة اليومية، وفي ممارسات الشباب كما في سلوك وفكر الشيوخ.
الابتكار الواضح في التجدد الصيني، هو غرس بأسلوب عملي لمفهوم العمل التطوعي الحقيقي. فعلى سبيل المثال فإن المؤتمر الذي شاركت فيه قام 80 في المئة على الأقل من أعماله على أساس هذا العمل التطوعي للشباب من الجنسين، فكل ضيف يقوم باستقباله في المطار وتوديعه فريق من المتطوعين، ويتم توفير سيارات الانتقال بتطوع من هيئات وشركات ومؤسسات الدولة في الإقليم الذي يعقد فيه المؤتمر. ثم يرافق شخص مع كل مشارك في كل حركاته ليضمن وصوله في اللحظة المحددة لمقر الاجتماع، ولقاعة الطعام، وللراحة وللحركة والتنقل ونحو ذلك. بالطبع قد يتبادر للذهن أن هذا أسلوب من أساليب الرقابة الأمنية غير المباشرة، وقد يكون في ذلك جانب من الصحة، ولكنه رقابة جيدة وغير ضارة، لأن المشارك في مؤتمر أو في زيارة له مهمة محددة، وهو التفاعل مع المشاركين الآخرين، وتبادل الخبرات، وينبغي توفير جميع التسهيلات له من دون أن يفكر، أو يقلق لقصور، أو عدم وضوح بسبب اللغة والبيئة الجديدة وغير المألوفة له.
وفي نهاية الاجتماعات حاولت إعطاء أي هدية رمزية للمرافق، ولكنه رفض بأدب وبإباء وشمم، قائلاً إنه لم يفعل شيئاً، وإنما قام بواجبه تطوعاً، وان هذا يأتي انطلاقاً من إيمان الصين وشبابها بذلك. هؤلاء الشباب والشابات من طلاب الجامعات، ومن الموظفين، ودهشت عندما كان الذين يستقبلونني في المطار اثنان من القضاة (قاض وقاضية)، والسيارة التي أقلتنا من سيارات المحكمة التي يعملون بها وكنت غير مصدق للموقف واستفسرت منهما عدة مرات: هل هم قضاة في المحكمة؟ فأكدوا ذلك وأعطوني بطاقاتهم، وقلت في نفسي: أين هذا من القضاة أو حتى أقل منهم من الموظفين في بلادنا، حيث يعتبر كثير من الفئات أنهم فوق القانون، وإن هذا يتعارض مع كرامتهم بالذهاب لاستقبال ضيف يحضر لمؤتمر عام، وليس حتى في مجال القضاء، كذلك طلاب الجامعات ورجال وسيدات من مختلف الأنشطة ومجالات العمل.
المظهر الثاني في عملية التجدد هذه هي انفتاح الشباب والموظفين في الصين، وسعيهم لتعلم اللغات الأجنبية العديدة، فالمرافق لشخص روسي تجده يتحدث اللغة الروسية، ولشخص ألماني تجده يتحدث اللغة الألمانية، ويحرص كل مرافق على الحديث مع الشخصية المهمة التي يرافقها بأدب شديد ومودة بالغة، فيتحدث عن الصين ومشاكلها ومستوى المعيشة، ويناقش ذلك بموضوعية، موضحاً الإيجابيات والسلبيات بلا خوف وبلا تردد. كما يناقشك في شئون بلادك ووجدت كثيرين تحدثوا معي عن الأوضاع في مصر، وما حدث فيها من تغير، وعن الأوضاع في البحرين، وعن قضية فلسطين وعن إسرائيل، ولديهم نهم للتعرف على الجديد وانتهاز الفرصة من مرافقتهم لشخصية كبيرة في التعرف على خبرة هذه الشخصية والتحدث باللغة الإنجليزية أو غيرها من لغات المرافق.
المظهر الثالث: هو شعور المواطن الصيني بأن المستقبل يحمل له الأمل، فأثاروا معي على سبيل المثال التساؤل كيف يظل الرئيس السابق حسني مبارك ثلاثين عاماً؟ وهل يجوز له أن يعين ابنه ليخلفه في نظام جمهوري؟ ولماذا تتدخل زوجته في السلطة؟ وهل لها منصب سياسي؟ ولما أجبت بالنفي أبدوا دهشتهم، لأن المرأة في الصين لا تتدخل في عمل زوجها، وإذا كانت موظفة فتأخذ دورها ومكانتها ومسئوليتها، وهذا هو الأعم الأغلب، وإذا كانت سيدة منزل فلا دور سياسياً لها في عمل زوجها لأن عمل كل شخص هو مسئوليته. وأضافوا أن الرئيس الصيني له مدة أقصاها عشر سنوات، يقدم خلالها كل ما يستطيع من فكر وعمل وعليه أن يتقاعد.
المظهر الرابع هو التجدد العقائدي فلا تجد أحداً يتحدث عن الماركسية أو الشيوعية أو حتى فكر ماوتسي تونغ، وإنما يتحدث عن العمل وتحديده، ويتحدث أحياناً عن عودة الممارسات الدينية مثل البوذية والمسيحية بأنواعها والإسلام واليهودية، ولا يزيد عدد المعتنقين للأديان المختلفة عن 10 في المئة فيهم 5 في المئة يؤمنون بالبوذية وهي أديان وعقائد ذات طابع فلسفي وشخصي ولا دخل لها بالسياسة أو بعلاقات الإنسان ودوره في المجتمع.
لقد أدركت من زياراتي المتعددة للصين بما فيها هذه الزيارة أحد الأسرار المهمة في تقدم الصين، وتماسكها اجتماعياً، وحرصها على العمل والإنتاج، أكثر من اهتمام المواطن الصيني بالجدل في القضايا السياسية والأحزاب أو الانقسامات الدينية والطائفية. المواطن الصيني في عهد الانفتاح أصبح أكثر تفاؤلاً بالنسبة للمستقبل الواعد، لأنه انشغل بحقائق الحياة اليومية، بأكثر من انشغاله بالغيبيات أو الأحلام وان طموحاته واقعية وذات طابع عملي
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3191 - الخميس 02 يونيو 2011م الموافق 01 رجب 1432هـ