قبل حين من الآن وقفتُ أمام أحد المطاعم المعروفة. جاء رجَلٌ ووقف بجانبي بمعيّة أسرته بعد أن استطاب الحديث معي. قال مُتَمتِمَاً بصوت لا تُخطئه الأذن وكأنه يُريد أن يُسمعني شيئاً ما: هذا المطعم أيضاً مُقاطَع ضِمنَ قائمة المُقاطَعِيْن من المحلات التجاريّة، لكن حاجتي للطعام هي مَنْ تفرِض عليَّ أن أشتري منه الآن. إنها الحاجة فقط وليس شيئاً آخر.
رَمَقته بنظرة تدلّ على أنني سمِعت ما تمتمَ به. قلتُ له باسِماً: أنا أيضاً مُقاطِع، ولكن مُقاطعتي هي في مُقاطعة دعوات المقاطعة ذاتها. فكلّ الدعوات المزبورة أردّها حالاً إلى أصحابها سواء بالتفنيد أو التهكّم. قال لي: أتعلَم، بأن ما قُلتُهُ عن مقاطعة هذا المطعم أو غيره لا يستقيم مع ما كنت عليه (وأسرتي أيضاً) طيلة سنين مضت، وربما هو سلوك غريب حتى عليَّ؛ حيث أنني لم أعد أعرف كيف أتعامل مع دعوات المقاطعة التي يُطلقها البعض.
ذكّرني حديث ذلك الرّجل البسيط بشأن شرائه من مطعم حرَّضه آخرون على مقاطعته لكن الحاجة دفعته لكسر تلك الرغبة، بإباحة شرب الخمر وأكل لحم المِيتَة للمُكرَه، أو للخائِف على نفسه من الموت عَطشاً أو جُوعاً، في الوقت الذي لا يحتاج فيه هو ولا غيره أصلاً من أهل هذه البلاد الطيبة أن يفعلوا ذلك بأنفسهم وبأهلهم، وكأنهم في إكراه شرعي بيِّن.
بالتأكيد لا يُعلَم مَن ألَّبَ ذلك الرجل وأمثاله على فِعْل ذاك السلوك الغريب لكن الأكيد أن سُكْرَة الأزمة الاجتماعية/ السياسية التي نعيشها هذه الأيام هي التي صاغت له ولغيره مثل ذلك الجو الموبوء والآسِن، وزادها ثمالة أشخاص مرضى من هنا وهناك لا هَمَّ لهم سوى التأزيم، والرَّقص على الجراح.
إنني أتساءل هنا: كيف وَصَلَت الأمور بالبعض لأن يفرز أكله وشربه ولِبْسه وفقاً لدعوات تصنِّف المتاجر والمحلات حَسَب مذاهب وانتماءات أصحابها وأفكارهم ورؤاهم؟! رغم أننا في دولة نظامها وشعبها يدين بالإسلام ديناً حنيفاً، ولا غضاضة لأحد أن يأكل أو يشرب ما دام في حياضها، بل لا يجب عليه حتى السؤال عن لحوم مطاعمها ما دامت على أرضها تعمل.
طيلة سنين عُمري مُذ كنتُ صغيراً وإلى حاضري هذا لم أتلَصَّص يوماً لكي أعرف هل أن هذا المحل التجاري أو ذلك المطعم أو تلك البضاعة هي لمالِك شِيعي أو سُنِّي. وحتى عندما كنت أسمع عن حقيقة المُلْك والمالِك لم يكن يغيِّر ذلك من موقفي منه. لأنني وباختصار مقتنع بأن العقل يكون بطيئاً في نسيان ما تعلَّمه في سِنٍّ صغير حسب تعبير الكاتب الروماني سنيكا الأكبر، وما تعلّمته في صغري حتى تيَفَّعْت وكبرت هو أن هذا التقسيم الطائفي/ الفكري خارج التغطية بالنسبة لي ولغيري أيضاً وهم كُثُر. هذه هي الحقيقة ولا شيء غيرها.
إن هذا السلوك الذي يَرُومُه البعض في هذا الأوان المتشنِّج بدفوع من جهات غير حريصة على العلاقات الاجتماعية المستقرة لم يفعله البحرينيون طوال حياتهم. بل إن أكثر المجتمعات انقساماً على المستويين المذهبي والإثني قد تجاوزته وجعلته ضمن مساحة الذاكرة المُخجِلَة التي يستحي أصحابها من استذكارها، أو القول أنهم كانوا يفعلونها في زمنٍ وَلَّى ولن يعود.
اليوم يُريد البعض أن يُمذهِب أكلنا وشربنا وملبسنا ودواءنا وحتى هواءنا، وهو أمر لا يدلّ إلاّ على مرض قد استولى على النفس، فأفسد نواتها. كَم من القلوب المعطوبة لمرضى من أهل السُنِّة الكرام فتحها جرَّاح شيعي فأصلحها بإذن الله. وكم من جَماجِم مهترئة لمرضى من أهل الشيعَة الكرام أعاد لها صحتها جرَّاح سُنِّي بإذن الله. وكم من أسَرٍ شُفِيَ أحباؤها فرفعت شكرها لله تعالى ثم لهذا الطبيب أو ذاك دون أن تنظر لهويته أو دينه أو مذهبه.
وكم مرَّة تداعى فيها أهل الرِّيف إلى المحرق لأكل ما تتفرَّد به أرضها من خيرٍ حلال. وكم هي الساعات التي قضاها المُحرَّقيُّون في أكل ما تنضح بها أواني قرى الشمال من طيِّبات الطعام. بطون بحرينية اختلطت بها مقادير من أنامل مَنامِيّة أو رفاعيّة فلم ينتبه أحد إلا إلى الهناء والطيب فيها. ولم يخرج رِعَاق البطن يوماً لأحد من الناس مُميِّزاً أكلاً جاءه من الأعلى، ليلفظه أو يستمرئه.
وإذا كانت ألذّ المأكولات العسل وهو بَصْق من نحلة (حشرة)، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دودة، وأجلّ المشمومات المسك وهو دم من سرّة دابّة (كما جاء في الأثر) فعَلامَ هذا الاقتتال وهذه الجلبَة من البعض ضد البعض الآخر. وإذا كان سليمان بن عبدالملك قد أكلَ الطيب، ولبس الليِّن، وركِب الفارِه، وافتضَّ العذراء فلم يبق له إلا صديق يطرح معه مؤنة التحفُّظ فما بالنا اليوم ونحن نمسي ونصبح على الخصومة والتنكيل بأخوّتنا، مرة بالتخوين، ومرة بالتسقيط ومرة بالمقاطعة كما الآن، في مخالفة صريحة لشرع الله وللخلق الحسن.
يُخطئ البعض إن قام هو بمحاولة تلويث أجواء البحرينيين وتسميم علاقاتهم الطيبة مع بعضهم وجرّهم إلى أزمات مُركّبة على أزمتهم الطاحنة، وإثقالهم بأحمال زائدة على ما يحملون، وفي هذا خطأ جسيم، وتنكيل بأجساد الناس وبقلوبهم وبمشاعرهم. وليعلم الجميع، أن نتيجة أيّ أزمة طارئة ستزول. فالأصل في المجتمعات هو الاستقرار وليس الأزمات، لذا فلا داعي لأن نكرِّس ما دون الأصل ما دام هو إلى زوال
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3187 - الأحد 29 مايو 2011م الموافق 26 جمادى الآخرة 1432هـ