يجد «العرب» أنفسهم اليوم مضطرين إلى إجراء مراجعات أساسية وجذرية في مرحلة ما بعد الغزو العسكري الغربي الحديث الذي شهدته المنطقة، وسقوط بغداد، وفي سياق أحد أشكال الرد «الفردي» على الهجمات التاريخية الدؤوبة الهائلة على المنطقة العربية والتي لم تنقطع منذ قرنين كاملين، انكشفت المعركة «الأخيرة» التي بدأت بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، عن أزمات فكرية وإنسانية واجتماعية وسياسية شديدة الخطورة، وذلك في ظل انصراف الأنظمة الحاكمة في المنطقة عن الأهداف الكبرى العامة التي تلبي رغبات الجماهير من المحيط إلى الخليج، وانشغال معظم سياساتها بإنقاذ مصالحها القطرية أو الطائفية أو العشائرية أو الفردية الخاصة على هامش سياسة «انج بنفسك كيفما اتفق»... وقد أُكِل الثور العراقي! في غياب شبه كامل للنخب السياسية المعارضة المؤهلة والقادرة على تعبئة الجماهير لقيادة حركة تغيير فكري واجتماعي وسياسي واسعة النطاق، ناهيك عن عجز معظم المفكرين والفلاسفة وعلماء الدين في المنطقة عن الوصول إلى شعوب المنطقة وتقديم تصور واضح عن آليات التغيير وماهيته.
تأتي ضرورة القيام بهذه المراجعات على هامش واقع بشع تعيشه المنطقة ما بين دفع مدروس دؤوب في اتجاه حالة «الفوضى الموجهة» التي بشرت بها «كونداليزا رايس»، والتي وقفت وتقف أنظمة عربية في وجهها بطريقة أو بأخرى كما هو الحال في المملكة العربية السعودية ومصر وسورية وقطر، وما بين حركة التفتيت والتجزئة المستمرة دون توقف والتي تعيش «الأمة» أحداثها في بث حي ومباشر في كل من العراق وفلسطين والسودان واليمن والمملكة المغربية، فضلا عن المحاولات المستميتة لتفجير المجتمعات من الداخل خاصة في دول الخليج ومصر ولبنان!
أمام هذه الحقائق المرعبة، والتي تكاد تكون متطابقة مع الوضع السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا أيام حكم «ملوك الطوائف» في شبه الجزيرة الإيبيرية، والذي أدى إلى هلاك القوم واستئصال شأفتهم ليس السياسية والاجتماعية فحسب، بل وإبادة العنصر البشري واللغوي في تلك الأرض على امتداد ثلاثمئة عام من تغول العدو وتشرذم القوم وعجزهم، أمام مشهد كهذا يجب أن تقف الأمم التي تريد النهوض من نفسها موقف المراجعة الشاملة، أو تستسلم لهذا القدر الذي تصنعه بيد أبنائها ساعة فساعة في رحلتها نحو الهاوية.
عودة الاستعمار بهذا الشكل السافر إلى المنطقة، وسقوط بغداد الأخير، وتمايز ما تبقى في أيدي الفلسطينيين من أرضهم المقدسة إلى سلطتين شرقية وغربية، شكّل الصفعة الأخيرة التي تلقتها «الأمة» على وجهها لتستيقظ من سباتها المهين، محاولة العودة إلى رشدها وهي التي اعتادت الانبعاث في كل مرة بدت فيها وكأنها ميؤوس منها!، لقد حان الوقت للمساءلة عن جدوى الأفكار التي سادت هذه المنطقة خلال الستين عاما الأخيرة، والتي صاغت رؤية الناس لأنفسهم ولمنطقتهم التي مافتئت تراوح بين مسمى «الأمة العربية»، و»الوطن العربي»، و»العالم العربي»، متخبطة ما بين هوية قومية فُرضت على الناس بسلطة الأنظمة الثورية «القومية» التي استخدمت من أجل هذه الصياغة الإجبارية سطوة الإعلام مع قوة الظلم والسحل والتعذيب والتهميش والإقصاء، وما بين هوية إسلامية صعّدَت من تبلورها الانتفاضة الفلسطينية ما بين القرنين، لتفرض نفسها على الساحة من خلال رؤية دينية مغرقة في الخصوصية الثقافية المحلية، والتخلف الفكري، والانسلاخ عن روح الدين الحضارية الإنسانية الأخلاقية.
زلازل عنيفة ضربت القناعات، ونظرة الشعوب لنفسها وواقعها، وتصورها لماضيها ومستقبلها، ووعيها لوجودها، وإدراك أبعاد هويتها، ووجدت «الأمة» نفسها في مواجهة تحديات بالغة الخطورة فيما يتعلق برؤيتنا لطبيعة المنطقة التي ننتمي إليها، ليس أولها وأخطرها ضرورة إعادة صياغة وتحديد الهوية، ولا آخرها إعادة تشكيل رؤية خاصة بالأنا في مواجهة الآخر، ولكن أكثرها إلحاحا هو تدقيق النظر في كافة المصطلحات التي تتداولها الساحة السياسية والإعلامية والفكرية اليوم، وعلى رأس ذلك كله المصطلح الخاص بتحديد المكان الذي تنتمي إليه هذه «الأمة»، هذا إذا حصرنا الحديث في هذه المجموعة البشرية التي تعيش في ظل اثنتين وعشرين دولة مرشحة للازدياد في عصر التفتيت والتجزئة الانشطارية الجغرافية والسياسية التي لا يبدو أنها ستتوقف عند حد، لأننا وبكل بساطة نفتقر للآليات اللازمة والضرورية لايقافها.
إننا في حاجة ماسة إلى مراجعات كبيرة وخطيرة تعيد رسم معالم الهوية الجماعية في المكان الذي أصبح بؤرة للبؤس الإنساني «العربي» في ظل وضع مستنقعي ثقافي متجمد في مربع أحكمت أضلاعه الأربعة الإغلاق على واقع تتخبط فيه الجماهير: استبدادٌ سياسي مزمن، ظلمٌ اجتماعي مستفحل، تدهورٌ اقتصادي مخجل معيب، وانهيارٌ مزلزل لعمليتي تربية الإنسان وتعليمه.
يقول علي توفيق الحمد: «إن دقة المصطلحات لا تعتمد الرموز اللغوية، ولكن دقة تنظيم مفاهيم الأشياء التي نقوم بدراستها»، ملاحظة بالغة الأهمية في مسار مراجعاتنا، وخاصة فيما تعلق بادئ ذي بدء برؤيتنا للجغرافيا التي ننتمي إليها، فهذه المنطقة من العالم لا تشكل «وطنا» بالمعنى العلمي ولا السياسي للكلمة، وإن كانت تشكلها في الذاكرة الجماعية المعاصرة بالمعنى العاطفي البحت، كذلك فيما يتعلق بمصطلح «أمة» فإن هذه المنطقة من العالم لا تضم «أمة» بالمعنى الفارابي أو الخلدوني، ولا السياسي- القومي المعاصر، ولكن بالمعنى المجازي اللغوي أو بالمعنى بالغ الحداثة من خلال مفهوم التنظيمات الفوق قومية «1»، وهو ما يفضي بنا إلى مراجعة وصفها بـ «عالم» في عصر العولمة، حيث تمايزت العوالم واختلطت في آن، دون أن يكون لما ندعوه «عالما عربيا» بصفته السياسية- الاقتصادية أي وجود ككتلة عالمية موحدة، وإن كان وجوده يتمدد خارج حدود المنطقة عن طريق عناصره الإنسانية المبدعة أنى وجدت في كافة العوالم المتقاطعة الأخرى.
قد يكون مصطلح «المنطقة العربية» هو الأكثر دقة وعلمية وواقعية للتعبير عن هذا الجزء الجغرافي المرموق، من حيث المعابر المائية الرئيسية في الاتصالات البحرية، والذي يشتمل على جزء من أكبر ثروات العالم المادية من البترول والغاز الطبيعي، والكوادر البشرية الشبابية، وقد كان مهدا للرسالات الإلهية الثلاث الرئيسية في العالم، وفي قلبه الأرض المقدسة «فلسطين» وفيها القدس الشريف، وكانت وخلال ألف عام منطقة متصلة إنسانيا واقتصاديا، تتبع سلطة سياسية واحدة، وتنقسم إلى عدة مناطق جغرافية معروفة تاريخيا: شبه الجزيرة العربية «الحجاز»، العراق، اليمن، بلاد الشام، مصر، وشمال إفريقية، وبلاد المغرب، مقاطعات، جعلها الاستعمار دولا مستقلة، بعد أن قام بتقسيمها بمسطرته وقلمه الأحمر- الأزرق السايكس بيكوتي ذاك! ومازال فعل التقسيم وإرادته سارية المفعول لم تتوقف منذ سبعين عاما حتى الساعة، بجهود دؤوبة لاقتطاع المزيد، وتقسيم هذا المزيد، وتمزيق مزيد المزيد من هذه المنطقة، بدءا بتبعيتها لهذا المستعمر أو ذاك، وانتهاءً بالأعراق التي تنتمي إليها شعوب المنطقة، أو بالطوائف والمذاهب والرسالات التي تتبعها المجموعات البشرية المقيمة حول الأرض المقدسة على وجه التخصيص، إمعانا في منح «اسرائيل»، شرعية وسط دويلات يراد لها أن تقام على أسس طائفية دينية صرفة، فدويلة يهودية لا تثير الكثير من التساؤلات وسط بحر هائج مائج من دويلات دينية سنية وشيعية ونصيرية ودرزية ومارونية وقبطية، هذا إن لم نتحدث عن الدويلات القومية كردية وأمازيغية وتركمانية و...و... إلى آخر هذه السلسلة من الفسيفساء الدينية والعرقية التي كانت خلال ألف وأربعمئة عام مصدرا للتعددية والحوار والتعايش والتعاون والنمو وإثراء الحضارة الإنسانية في المنطقة، وأصبحت الآن معول هدم وتمزيق وتفتيت وبلاء ودمار.
ثلاثة عوامل أساسية تشكل رابطا «حديديا» يجمع شعوب هذه المنطقة على اختلاف أعراقهم ولغاتهم ولهجاتهم ورسالاتهم الالهية وطوائفهم ومذاهبهم واتجاهاتهم: ثقافة واحدة متأصلة متجذرة، والثقافة هنا لا يقصد بها لا الدين ولا الحضارة، ولغة رسمية «مقدسة» واحدة هي اللغة العربية الفصحى، يلحق بهما العامل الثالث الذي طالما لعب دوراً تاريخيا استثنائيا، قديما وحديثا في جمع كل شعوب المنطقة على اختلاف انتماءاتهم، وهو وضع مدينة القدس الشريف والمقدسات الدينية فيها، تشكل هذه العوامل الثلاثة الدعائم الأساسية لوجود «الأمة» في هذه المنطقة، بل إنها الدعائم التي تجمع وتوحد ولا يختلف عليها أحد، وذلك على رغم العمل الحثيث الموجه من... وفي الغرب لإحياء كل اللغات القومية المحلية والنعرات الطائفية والمشاعر القومية المتباينة!
وإذا كانت اللغة العربية تشكل حجر الأساس الخطير في إعادة تشكيل هوية «الأمة»التي تسكن المنطقة العربية، فإن «العرب» لا يشكلون العنصر القومي الإنساني الوحيد ضمن مجموع الأكراد والتركمان والشركس والأمازيغ، وغيرهم كثير من الأقليات العرقية، كما أن هؤلاء الأقوام في المنطقة العربية، لا يدينون جميعهم بالإسلام، وإنما بالاسلام والنصرانية واليهودية وبعض الديانات القديمة التي مازال أهلها متمسكين بها في بعض بلاد الشام وفي جنوب السودان واليمن ومناطق أخرى، فضلا عن الطوائف المتعددة المشتقة والمنشقة عن الرسالات الالهية الثلاث الرئيسية اليهودية والنصرانية والاسلام، والتي من أهمها الشيعة والدروز والنصيريين والإباضيين، وعشرات من الفرق الدينية المنتشرة في مختلف دول المنطقة.
إذا أردنا إعادة بناء المصطلح الخاص بالجغرافيا التي تجمع وتصبح مستعصية على القسمة، فإن علينا أن نجد المصطلح الذي لا يستثني ولا يُقصي ولا يلغي أحدا من سكان هذه المنطقة بسبب انتماء ديني أو عرقي، آخذين بعين الاعتبار أمرين أولهما: استعمال هذا الغنى الإنساني القومي والديني من قبل الاستعمار الغربي أداة هدم وتفتيت في جسد المنطقة، وثانيهما: ما عاناه أبناء كل المكونات الإنسانية لهذه الأمة في زمن ما من تاريخ المنطقة من الاضطهاد والإقصاء والتغييب والتعذيب.
المنطقة العربية إذن هي هذه المنطقة من العالم التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج الاسلامي ومن البحر المتوسط إلى الصحراء الافريقية، والتي تلتزم جميع دولها وشعوبها اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد كتابة وقراءة وتؤدي بها الأكثرية عباداتها، والتي تسود مجتمعاتها ثقافة خاصة تميزها عن غيرها من ثقافات العالم اليوم، إنها هذه المنطقة التي يلعب فيها هذين العنصرين – الثقافي واللغوي سلبا وإيجابا - دورا تجميعيا هائلا، لا ضرورة فيه ولا معه لإنكار الأصول العرقية والانتماءات الدينية المختلفة لعشرات الجماعات والأقوام الذين يشكلون مجتمعين بهذين العنصرين سدة ولحمة العنصر الإنساني فيها، هذا العنصر الذي يمكنه – ويريد- أن يعيش ويتعايش ضمن بوتقة مفهوم معاصر عن «المنطقة «، يبحث في أسس حضارية واحدة تضم الجميع، ولغة واحدة يفهمها ويكتب بها ويقرأها الجميع، من غير الأميين الذين تتجاوز نسبتهم في المنطقة العربية الـ 70 في المئة، في إطار هوية معاصرة لا يجب ولا يمكن معها إلا لإسرائيل وحدها أن تكون جسدا سياسيا واجتماعيا وثقافيا غريبا ودخيلا على المنطقة العربية
إقرأ أيضا لـ "نوال السباعي"العدد 3184 - الخميس 26 مايو 2011م الموافق 23 جمادى الآخرة 1432هـ