ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في مصر تعد فريدة في نوعها، لأنها انطلقت بقيادة نخبة من الشباب معتمداً على تكنولوجيا العصر وأيدتها الجماهير الشعبية بطموحاتها الكبيرة وحماها الجيش المصري بوطنيته المتدفقة. وفي الوقت نفسه تفاعلت معها الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات العامة التي كانت على الساحة قبل 25 يناير.
ولكن الثورة افتقدت ثلاثة عناصر، هي: خطة استراتيجية بعد الإطاحة بالنظام السابق، ووحدة القيادة، سواء لتنوع جماعات الشباب أو تعدد القوى التي أيدتها وأخيراً وجود كوادر سياسية شبابية أو حتى من الأحزاب القائمة، لها جذورها الحقيقية في المجتمع ماعدا حزب أو حزبين فضلاً عن القوى والحركات الدينية. ومن هنا برزت معضلة ثورة 25 يناير ولقد عدتُ للتو من مؤتمر عالمي في الصين بعنوان «المنتدى العالمي الثقافي» وشارك فيه أكثر من 300 شخص من الصين ومن دول العالم المختلفة، وكنت العربي الوحيد في المؤتمر بالإضافة إلى مستشار ملك المغرب محمد السادس وهو من اليهود المغاربة، وكان ضيف المؤتمر الرئيسي هو رئيس وزراء الباكستاني رضا جيلاني الذي ألقى كلمة في الجلسة الافتتاحية.
المؤتمر ضم مثقفين وأكاديميين وخبراء في البحث العلمي والاستراتيجي والثقافة والاقتصاد وخبراء الشئون الصينية، وقد دُعوا جميعاً بصفتهم الشخصية، ووضع على مقاعدهم لوحات بأسمائهم من دون الإشارة إلى أية دولة ينتمون إليها.
ودار البحث حول مستقبل العالم في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة وتطرق بقدر قليل لقضايا التغيرات والتطورات في الشرق الأوسط، عبر إشارات محدودة لبعض الباحثين، وفي مقدمتهم عالم الاقتصاد وأبو العملة الأوروبية البروفسور مونديل الذي أشار إلى العملة الخليجية كإحدى عملات المستقبل، كما أشار آخرون إلى التطور الاقتصادي في دول الخليج، وإلى حركات الثورات والانتفاضات الشعبية في المنطقة العربية.
كانت مداخلتي الرئيسية في إحدى جلسات المؤتمر في اليوم الأول وكانت الجلسة عن «قضية حوار الحضارات العالمية»، وعرضت لمفهوم حوار الحضارات وظروفه وشروطه وللحضارة الإسلامية وارتباطها بمفهوم حوار الحضارات وتفاعلها معه، ونظرتها للعالم كوحدة واحدة، مثل الجسد وأشرت إلى مبدأ التوازن العضوي في فلسفة الفارابي وكتابه «أهل المدينة الفاضلة»، كما أشرت إلى كثير من الممارسات الإسلامية التي قامت على الاستفادة من حضارة اليونان وفلسفتها بوجه خاص، فضلاً عن استفادتها من حضارات البلاد التي فتحتها. وتناولتُ أهمية الحوار الحضاري في القرن الحادي والعشرين لحل المشاكل الدولية عبر مثل هذا الحوار السلمي بدلاً من الصراع والعداء والكراهية.
وفي أوقات ما بين الجلسات حرص كثير من المشاركين على الاستفسار مني عن أوضاع الشرق الأوسط وثوراته وانتفاضاته مع تركيز خاص على ثورة 25 يناير في مصر. وتساءل عدد من العلماء والباحثين الصينيين عن أثر قيام تلك الثورة على العلاقات المصرية الصينية، كما تساءل خبراء آخرون، وخاصة من عدة دول أوروبية عن أثر تلك الثورة على علاقات مصر الدولية وبخاصة مع إسرائيل.
فأوضحت لهم أن مصر دولة ذات حضارة تمتد إلى أكثر من خمسة آلاف عام، وان البعض يشير إلى سبعة آلاف عام، وان أول معاهدة مكتوبة في التاريخ بين دولتين عقدتها مصر في عهد رمسيس الثاني، وحاتوليس الثالث ملك الحثيين وان مصر تحترم دائماً معاهداتها طالما احترم الطرف الآخر ذلك. وبالنسبة للعلاقات المصرية الصينية أوضحت أن هذه العلاقات ذات طبيعة استراتيجية وعميقة الجذور، وان الذي أرسى دعائمها في العصر الحديث كان جمال عبدالناصر وشوان لاي، ومن ثم فإن تغير نظام الحكم في مصر لن يؤثر في جوهرها، ولكن قد يؤثر في بعض الأساليب ، إذ إن النظام السابق على رغم تقديره للصين، ورغم إقامة اتفاقية شراكة استراتيجية أثناء وجودي سفيراً لمصر في الصين لم تكن موضع تفعيل حقيقي من الطرفين، وان الوقت قد حان لكي يتم مثل هذا التفعيل بمنهج جديد.
كما شرحت نموذج ثورة 25 يناير وأنه نموذج مختلف عن الثورات أو الانتفاضات التي حدثت في دول أخرى في المنطقة، فلكل دولة ظروفها، ولكن النموذج المصري كان نموذجاً عبر عن إرادة الشعب بأسره، وعن تطلعاته وعن ثورته ضد نظام ظل ثلاثين عاماً، وقاد البلاد إلى إخفاقات كثيرة في مكانة مصر الدولية وفي رفاهية شعبها وفي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
النموذج الصيني يقوم على منهج البناء الواقعي وعلى إطلاق الطاقات الإبداعية للأجيال الجديدة وبخاصة أجيال الشباب الذين يتولون المناصب الإدارية العليا، ولهذا تم القيام بمبادرات عديدة على أساس من التنافس بين الأقاليم والمناطق وهو تنافس صحي وبناء، وأدى إلى تطور مختلف المناطق، وعزز بناء الكوادر العلمية والثقافية.
النموذج الصيني هذا حقق نقلة نوعية للصين من دولة نامية إلى ثاني اقتصاد في الناتج الإجمالي في العالم، كما حقق رفع مستوى معيشة المواطن الصيني ومستوى رفاهيته ورعايته الصحية. عوامل نجاح النظام الصيني انضباط العامل وانضباط المواطن، يحترم كل منهم اللوائح والقوانين وحرمة العمل كما لو كان مكاناً للعبادة ومواقيت العمل والإتقان في الأداء والتنافس الإيجابي في الإنتاج والتفوق في العمل بين المصانع والشركات.
أثار دهشتي أن أحد الباحثين الألمان المشاركين في المؤتمر عرض في كلمته لبرنامج قياس الفارق في التعليم على المستوى العالمي بين أدنى تحصيل وأعلى تحصيل علمي للطالب، فوجدوا الفارق في الصين ضئيلاً، وبذلك حصلت المدارس الصينية على المكانة الأولى في العالم في أفضل مستوى يحقق التقارب بين مستويات الطلاب. وتعتمد المدارس في الصين على التعليم الحكومي والتعليم الخاص بمصروفات، ولكن ليست هناك بدعة الدروس الخصوصية، ويرتبط التعليم بالتطور الصناعي والعلمي في الشركات والمؤسسات التي تستقطب المتفوقين وتخصص لهم مراكز أو وحدات بحثية داخل شركاتها.
إن قادة ثورة 25 يناير مطالبون بالإصرار على إحداث التغيير الشامل لمناهج التعليم والرعاية الصحية والبحث العلمي والفكر الاستراتيجي، بفرض الانضباط في الشوارع وفي العمل وان يكون الجميع قدوة في احترام القوانين. إنهم مطالبون بتغيير الفكر القديم والقيادات القديمة التي ارتبطت بالنظام القديم حتى يمكن أن تحدث انطلاقة حقيقية، كما حدث في الصين حيث الوزراء معظمهم لا يزيد سنهم عن خمسين عاماً والمديرون في الثلاثينيات والأربعينيات. مع احترام خبرة كبار السن وإنشاء مراكز بحثية وهيئات استشارية لاستيعابهم والاستفادة من خبراتهم، وكذلك تدريب الكوادر بمن في ذلك الوزراء على طبيعة عملهم قبل وفور توليهم مناصبهم.
ومن ملامح النموذج الصيني العمل إلي حد كبير في العلانية والشفافية؛ فالمناصب العليا يتم الترشيح لها للشخصيات التي تتمتع بكفاءة عالية ويتم الاختيار فيما بينها بعد إجراء المقابلات. إن المطلوب من ثورة 25 يناير وجماعات الشباب بوجه خاص البحث بدقة فيمن يرشح وزيراً أو محافظاً أو غير ذلك من المناصب الإدارية العليا ومدى ارتباطه بالنظام القديم بما في ذلك الوظائف الوزارات السيادية مثل القضاء والسلك الدبلوماسي والشرطة والقوات المسلحة، وهذا ما يحدث في النموذج الصيني حتى لا تتسلل عناصر الثورة المضادة من دون أن يشعر المسئولون وتمثل عناصر تخريب من داخل النظام.
إن مقاومة الفساد والرشا بحزم وحسم إحدى سمات وعوامل التقدم الصيني مهما كانت مكانة الفاسدين ووضعهم القيادي في الحزب أو الدولة، وهذا يحقق النزاهة والشفافية بقدر الإمكان وتفعيل أجهزة الرقابة يعد امراً ضرورياً في هذا الصدد .
هذا النموذج الصيني يحتاج لدراسة من مصر والدول العربية للاستفادة منه في بناء نموذج جديد يلائم العالم العربي ويلائم كل دولة فيه
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3182 - الثلثاء 24 مايو 2011م الموافق 21 جمادى الآخرة 1432هـ