لا يمكن أن يخلو زمن الحراك من التعدد والاختلاف والتباين في وجهات النظر بين المدارس والأطياف المختلفة، فالحياة والحيوية والحراك في أي مجتمع تنتج وتولد وتبدع وتثري، ما يعني أن تتأتى الفرص للتفارق في الأساليب والرؤى وطرق التعاطي، نعم حين يكون المجتمع ساكناً راكداً تتقلص حالات الاختلاف والتباين لانعدام دواعيها وموجباتها.
تبعاً إلى اختلاف وجهات النظر والأساليب تختلف الخطابات التي يعبر بها المختلفون عن مواقفهم وتصوراتهم المختلفة، وهذه العملية بما تحمله من النقد الموضوعي البنّاء جزء لا يتجزأ من الحراك والحيوية والصحة الاجتماعية، لأنها مشبعة بالتقييم والتوجيه والتصحيح للمسار العام، وهو ما يحتاج إليه المجتمع ليكون على بصيرة من أمره سواء في تطلعه إلى مستقبله أوفي تعامله مع مستجدات الأمور من حوله.
هنا يمكن أن يكون الخطاب والكلمة في جهتين، خطاب وكلمة في إطار النقد وخطاب وكلمة ليسا في هذا الإطار؛ فالكلمة في إطار النقد يفترض فيها أن تنطلق من روح إيجابية، تزرع الثقة في المجتمع وتشجع التنافس، وتحيي الأمل، لأنها تركز على الإيجابيات وتعطيها حجمها ومكانتها وما تستحق من التمجيد والثناء، ثم تسلط الضوء على المعايير والمقاييس التي فقدت وتسعى إلى تجذرها في النفوس وتحولها واقعا يتهيأ الناس للعمل به، فتكون الكلمات والخطابات وسائل إنقاذ وأمان إلى المجتمع بكامله.
والكلمة في إطار النقد تعطي لنفسها الوقت الكافي لدراسة الحدث والواقع بتأمل وهدوء، تستكمل بوقتها المتسع وهدوئها التام كل الأوراق المفقودة أو الضائعة التي أخفاها الانشغال بالحدث والانصهار في جزئياته قبل أن تصير إلى إطلاق العنان للسان أن يعمم أحكامه ويجزم بها ويعتبرها مسلمات لا تقبل النقاش ولا الجدال.
والكلمة في إطار النقد عليها أن تبحث عن موقعها المناسب، فمن المهم والمفيد أن يدعى لملتقيات خاصة أو عامة تبحث فيها الأمور والأحداث والتطورات، وما رافقها من تصرفات واختلافات ضمن أجواء التفكير بصوت عال، بغية الاسترشاد إلى الخير والوصول إلى الحقائق والحفاظ على مستقبل أفضل للمجتمع فيما يستجد من الأمور.
والكلمة في إطار النقد تمتد لتدرس الأمثال والنظائر، وما مرَّ بها من أحداث ومستجدات، فتقرأ الساحات الأخرى، وتتأمل تعاملها مع الظروف المشابهة لتصل إلى تقييم صائب عن واقع مجتمعها ونقاط ضعفه وجهات قوته، فمن تلك المجتمعات من سبقنا ومنها من يجارينا في السعي نحو التكامل، ومن المنطقي ألا نهمل تجاربهم وأفكارهم ومقترحاتهم.
أعتقد أن من الحكمة أن يسود النقد الواعي في المجتمع، وألا يسمح لأحد أن يكون أعلى من النقد شخصاً كان أم جماعة أم جهة، ومن الظلم الفادح لأنفسنا ولمجتمعنا أن نكمم الأفواه ونسترسل بعفويتنا المعهودة، ونحرم أنفسنا الفوائد التي يمكننا استخلاصها من تجاربنا بالدراسة والنقد والتأمل.
إنني أقترح على الواعين أن يبادروا لهذا الجهد الطيب، وأن يتداعوا لتجميع الأطياف وتدارس الأمر في الهواء الطلق بكل علانية وشفافية، فالأخطاء واردة والأغلاط ممكنة، وتصادم المصالح حاصل في بعض الأحيان وحالات الانشداد لما أَلف الإنسان وأنس لا تنكر، لكن ذلك لا يمنع من الاعتصام بالمشتركات الكبرى، ومن أهمها وحدة المجتمع والخوف على مصالحه ومكاسبه، والشجاعة كل الشجاعة أن نهيئ الأجواء المناسبة التي تمكننا من الإشارة إلى إيجابياتنا وأخطائنا بجرأة وحب وإخاء وإخلاص، متناسين كل شيء إلا الوطن والمجتمع من حولنا.
إن التعاطي بوضوح آليةٌ يجب أن تؤكد وأن نصر على ترسيخها كمنهج لا حياد عنه في تعاملنا مع بعضنا بعضاً، لأنها الكاشف الحقيقي عن عمق الأخوة بيننا، والمسلكية المناسبة التي تمكننا من فهم بعضنا بعضاً، ولا يوجد طريق يمكنه الحفاظ على سلامة قلوبنا وصفاء أرواحنا أسلك وأحسن من هذا الطريق الذي نتهادى فيه عيوبنا بمحبة، متأملين أن يساعدنا مجتمعنا على تجاوزها والتغلب عليها.
إن التقاطع والتدابر ليس من مصلحتنا في زمن يسعى فيه الآخرون بكل جد لأن يوجدوا لهم مشتركات إنسانية أو مصلحية ليكونوا أشد بأساً في مقاومة التحديات ومواجهة المستجدات فيهندسون لمجتمعاتهم الأحلاف ويستحدثون الأسواق المشتركة ويتداولون العملات الموحدة، لذلك لا يقبل منا أن نتفرج ونحن نشاهد مجتمعنا يسير نحو الضعف والتفرق والتناحر.
إن الوحدة الاجتماعية قضية إستراتيجية ومبدأ ثابت وقيمة تتسامى عن الإخضاع للمساومة والمقايضة، فهي تكبر على الألم وتشفيه، وتعلو على التجاذبات فتعدل ميولها، ومن أجلها تنحني الرؤوس فلا خير فينا منفردين من دون مجتمعنا بألوانه وأطيافه المختلفة
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 3180 - الأحد 22 مايو 2011م الموافق 19 جمادى الآخرة 1432هـ