طالعتنا الصحف المحلية الصادرة في الأسبوع الماضي بخبر مفاده رفض اللجنة المالية بمجلس الشورى مشروعاً بقانون تقدم به مجلس النواب يقضي بزيادة الدَّعم الحكومي لعدد أكبر من السلع الغذائية شملت الألبان والبيض وزيت الطبخ والطحين والرز والخبز والسكر والبطاطس والجبن.
اللجنة بررت قرارها بأن حكومة مملكة البحرين موقعة على اتفاقية التجارة العالمية التي تحُدُّ من تدخل الدولة في السوق والاقتصاد، وقد جاء ذلك القرار قريباً من وجهة النظر الحكومية، حيث أكدت وزارة الصناعة والتجارة أن إعادة هيكلة سياسة الدعم الحكومي للمواد الغذائية لتضم سلعاً جديدة قد تكون صعبة التطبيق وغير مجدية منطقيّاً واقتصاديّاً، لأن الحكومة تقدم دعماً لثلاث سلع غذائية أساسية هي الطحين واللحوم والدواجن، وقد بلغ نحو 42.6 مليون دينار خلال العام 2010م مقارنة بـ 33.7 في العام 2009م، وبحسب التقديرات الأولية فإن هذا المبلغ سيصل إلى نحو 66 مليون دينار مع نهاية العام الجاري، ما يشكل عبئاً كبيراً على موازنة الدولة.
الرد الشوري والتحفظ الحكومي يبدوان وجيهين، وخاصة مع توقع استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية على المدى الطويل، ما يعني الحاجة إلى زيادة الضخ الحكومي في كل عام، لذلك فإن اتساع دائرة السلع الغذائية المدعومة يشكل استنزافاً حقيقيّاً للموارد المالية للدولة، والتي من حقها أن تصرف في موارد أخرى أكثر أهمية ولا سيما في القطاع الصحي والتعليمي والإسكاني والبنية التحتية.
غير أن هذا الخبر يذكرني بمشاركة لي مؤخراً في ورشة عمل عن «تجارب الدول والمؤسسات الأهلية في محاربة الجوع والقضاء على الفقر»، التي نظمتها الشبكة الدولية لبنوك الطعام، ومقرها ولاية شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية، وبمشاركة واسعة من عدد من بنوك الطعام ومؤسسات المجتمع المدني والشركات التجارية في أكثر من 25 دولة.
أتاحت لي تلك المشاركة الفرصة للاطلاع على الكثير من التجارب العالمية الناجحة في محاربة الجوع وتوزيع الدعم الحكومي على الطبقات الفقيرة والمحرومة في المجتمع، فقد باتَ من الضروري أن نتدارس معاً كمؤسسات خاصة وعامة وأهلية سبل الاستفادة من تلك التجارب، ولعلَّ أبرزها العمل على تأسيس بنك طعام بحريني يهدف إلى أن يكون حلقة وصل بين من يمتلك فائضاً من الطعام أفراداً ومؤسسات، ومن هم في حاجة إليه، وعلى رغم تسمية هذه المؤسسة الخيرية بـ (بنك الطعام)، والذي يبدو فريداً لأول وهلة، فإن دوره كوسيط بين من لديهم الفائض ومن هم في حالة عجز لتوفير الغذاء من أجل سداد احتياجاتهم اليومية يؤكد أن تلك المؤسسة تستحق أن تسمى «بنكاً»، لأنها تلعب في الواقع دوراً مشابهاً لعمل البنوك التي تعمل وسيطاً بين المدخرين والمقترضين في عالم المال والأعمال.
وبالرجوع إلى التاريخ قليلاً نكتشف أنه تم تأسيس أول «بنك طعام» في العالم على يد الأميركي جون فان هينغل بولاية أريزونا في العام 1967م، وانتشرت بعد ذلك الفكرة على نطاق واسع في مختلف أنحاء الولايات، لتساهم بنوك الطعام الأميركية حاليّاً في توفير الوجبات الغذائية لأكثر من 23 مليون شخص بشكل يومي، ولتنتقل قصة النجاح تلك لاحقاً إلى القارة الأوروبية ومنها إلى مختلف البقاع والبلدان، فقد أسس جون لوحده أكثر من 1000 بنك طعام حول العالم، وهي تعمل على تحويل الفائض من الأغذية إلى وجبة للفقراء والمحتاجين في المجتمع.
ولعل من أبرز التجارب الناجحة والرائدة ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب، بل على المستوى العالمي والتي أثارت الكثير من الإعجاب والتقدير في تلك الورشة هي تجربة (بنك الطعام المصري) الذي يوفر وجبات غذائية بشكل يومي لأكثر من 100 ألف أسرة مصرية، وتجربة (السوق الشعبي) في تركيا التي تمثل نموذجاً متقدماً وراقياً للشراكة الاجتماعية بين القطاع الحكومي والأهلي.
وبناء عليه يستطيع أن ينشط بنك الطعام البحريني على محورين أساسيين، الأول: تأسيس أسواق اجتماعية على مستوى محافظات البحرين الخمس على غرار التجربة التركية، بحيث يحصل المواطن على نصيبه الشهري من السلع المدعومة من تلك الأسواق بعد تحديد الفئات المستحقة بحسب الطريقة المتبعة حاليّاً في توزيع علاوة الغلاء، وهذا من شأنه أن يضمن الاستفادة القصوى من الموازنة الحكومية المخصصة لدعم السلع الغذائية، وأنها تصل حقيقة إلى المستحقين.
أما المحور الثاني فيدخل في صلب عمل بنك الطعام، وهو توفير سلع غذائية صالحة للاستهلاك مجاناً إلى الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة، ويمكن الحصول على تلك السلع من الأفراد والشركات التجارية العاملة في مجال استيراد وتوزيع المواد الغذائية، ولاسيما إذا عرفنا أن تلك المؤسسات تتخلص سنويّاً من عشرات الأطنان من المواد الغذائية لأسباب متعددة، ما يكلفها الكثير من المبالغ والتي يمكن التقليل منها عن طريق التبرع لبنك الطعام، وخاصة إذا علمنا أن كبريات شركات الأغذية هم شركاء أساسيون في دعم بنوك الطعام في العديد من المناطق في العالم.
يقع على عاتق غرفة تجارة وصناعة البحرين اليوم مسئولية المساهمة في تأسيس بنك الطعام البحريني، لأنها تمثل الأسرة التجارية التي تضم في عضويتها المطاعم والفنادق ومستوردي الأغذية والأسواق التجارية الكبرى، وأن ضلوعها في تأسيس البنك بالتعاون مع الجهات المعنية الأخرى يبرز دورها الاجتماعي وإيمانها بمسئوليتها تجاه الفئات المحرومة في المجتمع.
إن الهدر والإسراف في التعاطي مع المواد الغذائية في البحرين وفي المجتمعات الخليجية بشكل عام يستدعي تدخلاً سريعاً من أجل الحفاظ على هذه النعمة الإلهية، فالحاجة اليوم أصبحت ضرورية للتفكير بجدية في الأمن الغذائي على مستوى منطقة الخليج، والتي تستورد معظم احتياجاتها الغذائية من الخارج، ما يشكل تهديداً حقيقيّاً لها على المدى الطويل، ولعل قيامنا بأية زيارة لقاعة أو صالة مناسبات بعد أي مؤتمر أو حفلة أو وليمة يتبين لنا حجم الهدر والإسراف في هذا المجال، والذي لا يقل بلا أدنى شك عن حجم الدعم الحكومي السنوي للسلع الغذائية.
لقد قدرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) حجم الهدر الحاصل للأغذية حوالي 1.3 مليار طن في كل عام والذي يشكل ثلث الإنتاج الغذائي العالمي، لذلك فإننا في حاجة ماسة، على المستوى الاجتماعي، إلى برامج توعوية لتثقيف الأسر عن الطريقة المثلى للتعامل مع استهلاك المواد الغذائية بعيداً عن الإسراف، ويمكن أن يساهم بنك الطعام في ذلك بشكل كبير بالتعاون مع خبراء التغذية بوزارة الصحة.
وزارة الصناعة والتجارة ووزارة التنمية الاجتماعية يمكنهما أيضاً أن يلعبا دوراً محوريّاً في دعم تأسيس بنك الطعام، والذي يمثل الآلية النموذجية التي تضمن وصول مبالغ الدعم الحكومي إلى الفئات الأكثر استحقاقاً، وخاصة إذا علمنا أن الآلية الحالية لتوزيع الدعم الحكومي للمواد الغذائية تسمح لغير المواطنين وغير المستحقين كالفنادق والمطاعم الاستفادة منها حتى وصلت نسبة الهدر في هذا المجال ما يقارب الـ 40 في المئة من قيمة الدعم الحكومي بما يعني حوالي 19 مليون دينار سنويّاً.
بنك الطعام يعد آلية من الآليات الناجحة في العديد من الدول، وإن تطبيقها في البحرين سيساهم حتماً في القضاء على الجوع إن وجد في مدة قياسية جدّاً، لذلك أتمنى أن نرى قريباً تحركاً في هذا الاتجاه، لأنه يمثل الحل الأمثل للاستفادة القصوى من الدعم الحكومي للسلع الغذائية ووقف الهدر والإسراف على المستويين الفردي والاجتماعي
إقرأ أيضا لـ "ناصر البردستاني"العدد 3175 - الثلثاء 17 مايو 2011م الموافق 14 جمادى الآخرة 1432هـ