آن الأوان للحديث في الخطوات العملية، الصغيرة، والكبيرة، والتي يجب أن نبدأ باتخاذها، بعد خمسين عاما من التوصيف والتنظير لواقعنا، الذي تصفه بالمرير الغالبية العظمى من المفكرين والإعلاميين والأدباء والمبدعين على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم في المنطقة العربية، لقد أقرّ الجميع بهذا الواقع المريض، إقرارا يستند إلى حجج منطقية، تتجلى في جميع مظاهر حياتنا، خاصة فيما تعلق بالإنسان والمجتمع وثقافتهما، اللذين لم نلتفت إليهما كثيرا ونحن نلهث في ساحات المعارضة السياسية والانقلابات العسكرية، والمغامرات الاقتصادية، والرغبة في التغيير من فوق وبالقوة، دون أن نعي دروس التاريخ في تغيير الأمم والأوطان، والتي لم تستقم إلا عن طريق تغيير الإنسان والمجتمع، كالسقوف لا تبنى إلا ببناء أعمدتها، ولا تخرّ إلا من القواعد!
هذا الإنسان... الذي بدأت أجياله الجديدة الرفض والتململ بحثا عن مخرج من الأزمة الخانقة، التي تعيشها المنطقة، استبدادا سياسيا، وفسادا اجتماعيا، وانهيارا أخلاقيا، وزلزالا اقتصاديا، ومحنة إنسانية بين الإعلام والتربية والتعليم، أزمة تفصح عن نفسها عبر الإعلام والأدب، وأحاديث الناس وآلامهم اليومية المتواترة، أزمة تجرح الضمير، وتكسر المرايا، وتؤلم إلى درجة الموت، إذْ سُدت الطرق، ووصلنا الجدار، فليس أمام شبابنا إلا الانتحار... الانتحار على الطريقة الكردية الشيوعية، حرقاً وهم أحياء، الانتحار قهرا، والانتحار بؤسا، الانتحار كوسيلة وحيدة لرفع صوتٍ تعاون على خنقه الجميع.
يحيلنا العنوان أعلاه إلى شعار حزب البعث «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة»، الذي يعبر شقه الأول عن تطلعات القوميين، بينما يعبر جزؤه الثاني عن آمال الإسلاميين، شعار مازال ساري المفعول على رغم الرجفة التي أصابت نظريات وأساليب القوميين العرب في المنطقة بعد غزو بغداد، وعلى رغم الزلزال الذي أصاب التيار الإسلامي بعيد أحداث هجمات سبتمبر!
أخالف الراحل الكبير «إدوارد سعيد» في جزئية تحديده لهوية المثقف الذي يحق له ويجب عليه أن يسهم في عملية التغيير، لأننا جميعا مدعوون إلى القيام بهذه المهمة، لا يمكن لأحد أن ينفي عن «المتدين» أحقيته في أن يكون مثقفا واعيا قادرا على حمل هذه المسئولية، كما لا ينبغي لأحد أن يحرم «القومي» أو «العلماني» من حقهما في الإدلاء بدلائهما في هذه البئر المعطلة، فمن الضرورة القصوى اليوم أن تتوحد جهود القوميين والإسلاميين والعلمانيين لإعادة النظر في ثقافتنا، التي ينتظم الجميع في إطارها، عربا وأكرادا وأمازيغ وأفارقة على اختلاف الرسالات الدينية التي ينتمون إليها، ثقافة تعبر بصورة واحدة عن أنساق تفكيرهم، ومعظم سلوكياتهم، وطبيعة استجاباتهم للمسائل التي تطرحها عليهم الحياة، فلا يختلف سلوك الإنسان وقناعاته الشخصية العامة في شيء جوهري في مشرق المنطقة عن مغربها، ولا تفاعل الأسرة وطريقة تعاطيها مع المحن، ولا رد فعل الجماعات والأحزاب والحركات الدينية أو السياسية على الأحداث، إنها الثقافة السائدة من المحيط إلى الخليج، بصمة لا تخطئ عن الإنسان والمكان والزمان، بعجرها وبجرها، ولكن وقبل ذلك وبعده بتناغمها وانسجامها وعدم حدوث أي شرخ كان في لحمتها الأساسية، والتي منحت المنطقة العربية صوتا وصورة وبصمة في عالم اليوم، وذلك على رغم أن الصوت كان نشازا، والصورة مشوهة، والبصمة... روحا حائرة تهيم على وجهها في أروقة الحضارة الهائلة الراسخة التي لا تستطيع هذه الأمة أن تنفك عنها تاريخا وفكرا وإنجازات.
نتحدث هنا عن الثقافة باعتبار تعريفها الاجتماعي الجمعي ومدلولاتها «الإثنية»: فهي عند شعب من الشعوب «جميع الأحوال أو معظم السلوكيات الفردية والجماعية التي يعبر بها هذا الشعب عن: قيمه الأخلاقية، وملاحظاته العقائدية، وأفكاره عن الوجود والإنسان والمخلوقات»، حيث اعتمدت في هذا البحث مفهوما محددا من مفاهيم الثقافة الكثيرة جدا، وهو: «مجموع نظم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أوجدها شعب أثناء تاريخه، وجعلها بعدا من أبعاد الوجود «القومي» أو «الملي» –الديني، فتحولت مع الثبات وعدم القدرة أو الرغبة على التطوير الى مكتسبات في اللاشعور أو الضمير الجماعي لهذا الشعب».
نظرتنا إلى الحياة والموت وبينهما فلسفة الأخلاق بين الخير والشر، قناعاتنا الإنسانية والفكرية عن الأحوال المهينة والمأسوية السائدة فيما يتعلق بأوضاع الأسرة والمرأة والطفل، تعاملنا مع الإنسان والحيوان والطبيعة، النظرة إلى الوطن وأجهزة السلطة ووسائل التغيير، التفكير في التغيير عن طريق الإلغاء والإقصاء والتكفير والتفجير، تعاطينا مع الحاكم وطبيعة قبولنا واستعدادنا للاستبداد سواء كنا ننتمي إلى اليمين أو اليسار أو إلى برزخ بينهما، لا يلتقيان، تعامل الحاكم معنا، وطبيعته الاستبدادية المترسخة جذورها في مجتمعات قبلية ذكورية، يستمد فيها الذكر سلطته من فهم مضطرب لنصوصٍ لَوت العادات والتقاليد غير الإسلامية عنقها، لترضي مفاهيم ثقافية ورثناها عن مجمل الأمم التي حكمت المنطقة، فانتهت إلينا اليوم بصماتها الثقافية البعيدة عن روح الإسلام كما نزل.
مفهومنا عن الجهاد وتحجره في مثلث التاريخ والعقيدة والآخر، رؤيتنا إلى الآخر الداخلي والخارجي، مفهومنا عن الحرية والكرامة والشرف، رضانا بما يحدث في مجتمعاتنا من جرائم تعارف المجتمع على السكوت عنها والرضى بها، انتهاك حرمة الإنسان عن طريق أخلاقيات – أو على وجه الدقة لا أخلاقيات- تمتد في المجتمع أفقيا وشاقوليا، لا يتخلف عنها حاكم ولا محكوم، ثبات الناس على عادات وتقاليد لا تمت إلى الشريعة بصلة الفهم والوعي، واعتبارها من الدين والدين منها براء، وتركها وهي البالية المهترئة تفعل فعلها التدميري في جسد المنطقة.
لعلنا... وهنا فقط يمكن أن نتفهم موقف «إدوارد سعيد « من المثقف المتدين، لأن هذه الفئة بالذات هي المسئولة بالدرجة الأولى عن ثبات وبقاء هذه الثقافة الواحدة الموحِدة تنخر في جسد الأمة، دون أن يتجرأ أكثر العلماء والفقهاء والدعاة على مجرد الإشارة إليها، خوف أن تفهم مواقفهم من هذه الثقافة المهترئة على أنها تعدٍ على النصوص والثوابت، حيث اختلطت في أذهان الناس الثقافة بالحضارة بالدين بالخصوصية! فكلمة «ثقافة» ترتبط ارتباطا كبيرا بكلمة «الخصوصية» ويأخذ هذا الارتباط في المنطقة العربية أبعادا مصيرية، (بسبب التشابك بين مفاهيم الخصوصية والثوابت، ويتوقف على تعريف مصطلح «الثوابت» بالذات فهمنا لمصطلحات الحضارة والثقافة والخصوصية، مما يضعنا أمام معضلات فكرية اصطلاحية فقهية حقيقية، وامتحان استثنائي لقدرتنا على تحديد المصطلحات، والتفريق بينها، من حيث القداسة، أو القابلية للتغيير!)، فالثوابت أمور لا يمكن المساس بها باعتبارها مجموعة النصوص الإلهية القطعية التي تتمتع بالقداسة المطلقة، أما الخصوصية والثقافة والحضارة، فلها معايير أخرى ومعاملة مختلفة، باعتبارها إنتاجات إنسانية غير مقدسة، فيمكن عندئذ تقييم الحضارة، وتعديل الخصوصية، ومراجعة الثقافة ونقدها وإعادة بنائها من جذورها، بل اكثر من هذا إن رد هذه المجموعة الهائلة من سلوكياتنا وقناعاتنا الثقافية المهترئة إلى أصولها الإسلامية الأخلاقية سيردم الشرخ الكبير بين قناعات وتوجهات الإسلاميين والعلمانيين في المنطقة.
إن انسحاب علماء الدين من مهمة إعادة بناء الثقافة الإسلامية الصحيحة التي تستند إلى الثوابت وتتفهم ملابسات الزمان وتحيط بمتطلبات الإنسان، وتقاعسهم عن تبيان الحق من الباطل للأمة، وخوفهم من العامة الذين ترسخت في أذهانهم هذه الثقافة المدمرة، جعل الحاكم والمحكوم في المنطقة يرتكبان الفظائع، ويبرران كل جرائمهم باسم الخصوصية! فقمع الحريات، وسحق الكرامة، وتعذيب الإنسان، وانتهاك حقوق المستضعفين، وحرمان الناس من الحدّ الأدنى من حاجاتهم الأساسية كبشر وكمواطنين، إنما يجري ويُبرر باسم الخصوصية الثقافية، لمنطقة تكاد تنفجر «انتحارا» في مواجهة خصوصية مزعومة لا تستند إلى دين ولا منطق ولا أخلاق ولاإنسانية!
إننا بصدد النظر فيما يجمع شعوب هذه المنطقة، ويعتبر من أهم وأعمق وأخطر العوامل التي تنسج وحدة العناصر الإنسانية التي تتشكل منها هذه الأمة من الناس، على اختلاف قومياتهم، والرسالات الإلهية والمذاهب والتيارات الفكرية والمستويات الاقتصادية التي ينتمون إليها. لقد أثبتت دراسة للملابسات الثقافية والفكرية والتربوية لدى شريحة واسعة – 350- من طالبات بعض الجامعات الإسبانية والبريطانية من المسلمات المولودات في إسبانيا أو بريطانيا لآباء جاؤوا من مختلف الدول العربية الشرقية منها والغربية، أن الثقافة التي تسود أرجاء المنطقة العربية هي ثقافة واحدة، تتمتع بمواصفات فكرية واحدة، ورؤى إنسانية واجتماعية واحدة، وتنتج لدى الجميع أنماطا سلوكية فردية وأسرية واجتماعية متشابهة إلى حد التطابق في أحيان كثيرة، كما كشف بحث حول «التوجهات النسوية في الجماعات الإسلامية بين ضفتي الأبيض المتوسط» أن مشكلات الطفل والمرأة والأسرة في المغرب أو موريتانيا على سبيل المثال لا تختلف في شيء من حيث المنشأ وردود الفعل الفكرية والسلوكية والرؤية الخاصة بالإصلاح، عن تلك التي يعيشها المجتمع في دول الشام أو دول الخليج!، ونتائج مثل هذه الدراسات لا تقدم البرهان على أن المنطقة العربية تتمتع بجغرافية واحدة ممتدة فحسب، بل إن كل مكوناتها الإنسانية تشترك في رؤية ثقافية واحدة تكاد تكون متطابقة في الكثير من جوانبها الفكرية والسلوكية.
لقد (تمددت هذه «الثقافة الواحدة» على حساب تراجع المدّ الحضاري في المنطقة بأبعاده الفكرية- الفلسفية، و الأخلاقية-الإنسانية، مع التقاعس في مجالات التفكير والفلسفة والآداب والفنون، والضمور المؤلم للعلوم الإنسانية وخاصة علوم النفس والمجتمع والتاريخ والترجمة والتربية، و»لعب ثبات هذه الصيغة الثقافية المعاصرة، وعدم وجود الرغبة أو القدرة على التطوير والغربلة « دورا خطيرا في اتجاهين متعاكسين، أولهما ايجابي يظهر في توحيد نمط التفكير لدى كل شعوب المنطقة، وثانيهما سلبي ويتمثل في ارتكاس متواصل للإنسان والمجتمعات - في ظل الاستبداد والظلم «الثقافيين» السائدين- نحو وضع غير إنساني وغير أخلاقي، في حين اختفت المحاولات الجادة للتغيير والتشذيب والإصلاح، عن طريق المقارنات النقدية وخاصة في مجال الفنون والآداب، والتي يمكن أن تلعب دورا جبارا في إعادة تأهيل هذه الثقافة السائدة اليوم، وردها لأسس الحضارة التي تتكئ على ضفافها المنطقة – كما رأينا في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»، أو «صلاح الدين» من تأليف وليد سيف وإخراج حاتم علي.
بإمكان صناع الرأي في المنطقة أن يحدثوا ثورة سلمية هائلة تغير معالم الوجود الإنساني فيها، عن طريق إحداث مراجعات شاملة لثقافتنا المهترئة اليوم، والاتفاق على صيغ أخلاقية لا تتنافى مع ثوابتنا الدينية، ولا تتصادم مع طبيعة العصر، وترضي الجميع، فالمنطقة العربية لا تحتوي على ثروات الأرض التي تحرك الطائرات والبوارج والمصانع فحسب، ولكنها زاخرة بالثروة الحقيقية التي يخشاها العالم اليوم، والتي يمكن أن تلعب دورا بالغ الأثر في إعادة تأهيل المنطقة للحياة من جديد، إنها ثروتنا الإنسانية الشبابية المهدرة، التي يجب أن تأخذها جهود مراجعة الثقافة وتشذيبها بعين الاعتبار، كأداة فاعلة في إطار ثقافة واحدة موحدة سليمة معافاة تنهض بالأمة، وتعيد إليها ثقتها بنفسها وبالمستقبل
العدد 3171 - الجمعة 13 مايو 2011م الموافق 10 جمادى الآخرة 1432هـ