الثورات التي شهدتها وتشهدها المنطقة العربية، تدخل ضمن الأحداث الكبرى التي يمكن أن نسميها تاريخية، لنوعية نتائجها. إن استتباعاتها لن تقف عند تغيير أنظمة بأخرى. ولن تؤدي فقط إلى انتهاء مرحلة وتأسيس مرحلة بديلة. إن الأمر يتجاوز ذلك إلى تغييرات في تصورات الناس للأشياء والمفاهيم والعلاقات، ومن هنا ستسقط العديد من الرموز والتصورات. ودون الادعاء بإمكانية حصر هذه التغييرات. من الممكن القول إن مفهوم الحرية والإنسانية والديمقراطية المرتبطة بالعالم الغربي ستكون أحد المفاهيم التي ستعرف تغييرات جذرية. والمقصود بتغيير هذه المفاهيم لا يعني بأي حال إعادة تعريفها الاصطلاحي أو الفلسفي، بل المعني بالتغيير مصدر هذه المفاهيم كقيم إنسانية.
في بداية عصر ما يسمى بالنهضة بالعالم العربي، ظلت باريس ولندن وغيرهما من العواصم الغربية الوجهات المفضلة لرموز التنوير العربي من طه حسين إلى رفاعة الطهطاوي ومحمد عبدو والأفغاني... وغيرهم كثير. وعلى المسار نفسه نشأت أجيال كثيرة في فترات التحرر وما بعد الاستقلال حيث نظر الناس بعين الأمل إلى الغرب باعتباره منبع الحرية والإنسانية وملجأ للديمقراطية. وفي فترات الصراع بين قيم الاستبداد وقيم الحرية احتضنت باريس ولندن وغيرهما من العواصم الغربية رموز المعارضة في العالم العربي وشكلت واحات وارفة الظلال لحرية التعبير واحتضان المطالبين بالديمقراطية والمناوئين للاستبداد.
ليست هذه الصورة وليدة الوضع السياسي المعاصر. إنها تضرب بجذورها في عمق الحركة الإنسية التي نشأت في أوروبا كحركة ثقافية إنسانية واسعة استهدفت التخلص من قيود الفكر الفيودالي والديني وسعت إلى اعتبار الفرد محور الفكر الإنساني. ولم يكن عصر النهضة والأنوار سوى تتويج لمسار إنساني لإعادة تعريف الإنسان باعتبار أن الحرية والكرامة والإرادة أسس لا محيد عنها لإنسانيته.
هكذا ترسخت صورة الغرب الإيجابية في تمثلات أجيال كثيرة في العالم العربي. لكن يبدو أن هذه الصورة الوردية التي غزت المخيال الاجتماعي للإنسان العربي تتضرر في الظروف الحالية بشكل كبير أو على الأقل سينشأ جيل جديد لا يثق كثيراً في الغرب وخاصة حكوماته، حكومات يظهر يوماً بعد يوم أنها تغض الطرف، بل منها من تورط في دعم أنظمة حكم أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها دموية إزاء مطالب الحرية والديمقراطية.
فعلى امتداد التطورات الجارية في العالم العربي توصل بريدي الإلكتروني بعشرات الرسائل مفادها «حكومات العالم الحر خذلتنا»، من ليبيا يقول الصديق محمد: «كان أملنا كثيراً في حظر جوي لكن يبدو أن القذافي يمتلك أوراق ضغط كبيرة على الرؤساء الغربيين، وإذا كان صحيحاً قد موَّل الحملة الرئاسية لساركوزي فسأكون حزيناً على مآل فرنسا الحرية والإخاء والمساواة». أتصور حجم الإحباط الذي يملأ إحساس محمد، هو الذي عرفته برصانته الكبيرة وحماسه الصادق نحو قيم الحرية. وفي بريدي الإلكتروني رسالة أخرى من صديق يمني: «أوباما يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ويمنح مزيداً من الفرص لعلي عبدالله صالح، ولا تدري الوزيرة كلينتون بأن الشعوب لا تنسى».
رسائل من هذا القبيل وغيرها كثيرة في شبكات التواصل الاجتماعي توحي بأن صورة الغرب وحمولته الإيجابية التي نشأت عليها أجيال كاملة ماضية إلى التغيير بفعل سياسة الحكومات التي لا ترى من المستقبل سوى مصالح ظرفية مرتبطة بأنظمة استبدادية. ولعل أحدث ضربة تلقاها بلد الأنوار هو حديث متواتر عن «علاقة مشبوهة» بين الرئيس الفرنسي ساركوزي ونظام القذافي، ولأنه يعرف جيداً أنه لا يمكن أن يخسر شيئاً، فجر نجل القذافي قبل مدة سيف القذافي قنبلة من العيار الثقيل في وجه حاكم فرنسا يتهمه فيها بتلقي عمولات ليبية لتمويل حملته الانتخابية، مهدداً بتقديم الوثائق الإثباتية.
وغير بعيد عن فرنسا، وبالضبط في الجارة الشمالية بريطانيا، قدم رئيس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في لندن، سير هاورد دايفيس، استقالته على خلفية تلقي أموال ومعونات من جهة الساعدي القذافي لتسهيل حصوله على درجة الدكتوراه. قصص أخرى تفيد ارتباط الجامعات بالنظام الليبي عبر قبول هبة مالية بلغت مليون ونصف المليون جنيه إسترليني من سيف الإسلام. أما وزيرة الخارجية الفرنسية «إليو ماري» فقد صارت قصتها مع نظام زين العابدين بن علي واستفادتها من عديد خدماته على كل لسان، إلى أن انتهى بها الأمر إلى الاستقالة على وقع احتجاجات داخلية وخارجية. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد ظلت «متساهلة» مع مجموعة من الأنظمة وعلى رأسها نظام مبارك الذي ظل إلى ساعاته الأخيرة شاهراً فزاعة الإسلاميين وأهميته في وقف زحفهم.
هذه مجرد أمثلة عن العلاقات المريبة بين الأنظمة الاستبدادية بالمنطقة العربية ومؤسسات رسمية غربية تعلن على الملأ دعمها للحريات والديمقراطية، وتتواطأ سرّاً لضمان استمرارية مصالحها الضيقة. وقد تكشف الأيام المقبلة ومع توالي سقوط الأنظمة الاستبدادية ملفات أخرى.
أكثر من صوت أكاديمي غربي نبّه إلى حالة الاستياء الشديد التي تسود شباب العالم العربي نتيجة الصمت الغربي أو ضعف حماسته اتجاه حراك الشعوب. العديد من التحليلات لم تفسر ذلك بمصالح شخصية لبعض صناع القرار السياسي الغربي، بل عزت الأمر إلى حالة الخوف التي تسيطر على الخيال السياسي الغربي من احتمال انتهاء الثورات العربية بين أيدي المتطرفين الإسلاميين...
نتيجة المواقف الغربية المترددة إزاء حراك الشعوب نحو الحرية قد يزداد حاجز ضعف الثقة في الغرب الرسمي سمكاً. إن ما يقع في ليبيا يذكر الكثيرين في العالم العربي بما حدث في العراق بعد حرب الخليج الأولى عام 1991، شجع الأميركيون والبريطانيون الناس في جنوب العراق على الثورة ضد نظام صدام حسين الذي أصبح ضعيفاً. وكان السيناريو المقترح أو هذا ما تم الإيحاء به: تبدأون أنتم المهمة ونحن نتدخل لإنهائها. ولكن سرعان ما استعاد صدام حسين سيطرته منفذاً عمليات انتقامية أودت بحياة الآلاف، واختفى آخرون في السجون دون أن تحضر مساعدة دولية للسكان.
قد يكون للحكومات الغربية ما يبرر خوفه بحكم الحمولة الإعلامية والرمزية التي تتحكم في صنع القرار. قد يكون أحد هذه العومل ذلك الخوف من التيارات الإسلامية وعدم وضوح طبيعة المعارضين الجدد. وهنا يقول الخبير في الشئون الإسلامية الفرنسي أوليفي لوروا: «من بنغازي إلى طهران، ينزل الشبان إلى الشوارع للمطالبة بالحرية والديمقراطية. لذلك يجب على أوروبا أن لا تترك الخوف من الإسلام يعميها وعليها أن تدعم الشبان».
لقد أثبتت الثورتان التونسية والمصرية على الأقل أن الجيل الجديد من الشبان في العالم العربي تجاوز بكثير حالة الانبهار بالنموذج الإسلامي، ورفع الشباب في تونس ومصر شعارات تطالب بالحرية والديمقراطية. وهنا يعود أوليفي لوروا للقول: «فقد الشبان الثقة بالإسلاميين كقادة سياسيين، لقد رأوا إلى أين أدى تطبيق شعارات الإسلاميين، في بعض الدول الإسلامية... كالطالبان في أفغانستان. بسبب هذه الأمور يكنون لهم القليل من التقدير»، قد يكون في موقف كهذا الكثير من التفاؤلية المفرطة، لكن ذلك لا يمنع من القول بأن الإسلام السياسي بدأ في خسران مواقعه المتقدمة التي اكتسحها طيلة سنوات الثمانينيات والتسعينيات. لقد خرج الشباب العربي إلى الساحات لا ليدعو إلى إقامة دولة الخلافة ولا تأسيس الخلافة، بل نزل مطالباً بالحرية والديمقراطية التي لا يعترف بها الأصوليون المتطرفون.
إن الحكومات الغربية وبسبب خوفها من استيلاء الإسلاميين على السلطة لا تواكب حقيقة ما يحصل، وظلت مساندة لأنظمة استبدادية. يقول الاقتصادي الفرنسي إيمانويل مارتان: «لم تكن الثورتان التونسية والمصرية درساً حضارياً للدول العربية الأخرى فحسب، بل شكلت درساً حتى للدول الغربية التي ساهمت تحت ذريعة الواقعية السياسية في الحفاظ وتثبيت وفرملة المسلسل الديمقراطي بالبلدان العربية»، هكذا يخلص الاقتصادي الفرنسي إلى نتيجة مفادها سقوط مقولة الاستثناء العربي من الموجات الديمقراطية وسقوط الكليشيهيات التي ربطت بين الثقافة العربية وقبول الاستبداد. وبالنسبة لـ «مارتان» فإن تخلف هذه المنطقة مرتبط بغياب الحرية نتيجة غياب الأرضيات المؤسساتية السليمة مما يساهم في تنمية سلوكات القدرية والحكامة السيئة...
من حسن الحظ أن العقل الغربي دائم المساءلة لذاته من خلال أصواته النقدية القادرة وباستمرار على مساءلة الذات. فسواء مع أوليفي لوروا أو مع إيمانويل مارتان وغيرهما يظل سؤال العقل حاضراً، ويظل المثقف والأكاديمي قادراً في كل مرة على إعادة تصويب بوصلة السياسي نحو قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية، وعلى هذا الأساس، هناك أمل كبير في أن يستطيع الجسم الأكاديمي من العالم الحر في تصحيح مسار العلاقة بين العالمين العربي والغربي.
لقد حكمت العالم العربي نخبة سياسية واقتصادية قدمت نفسها كحاملة لمشاريع الحداثة، في حين أنها مارست سلوكات ضاربة في عمق ظلامية القرون الوسطى، ومع ذلك فإن الغرب الرسمي استمر في التعامل مع هذه الأنظمة على الرغم من فقدانها لتأييد شعوبها، فمنذ أكثر من ثلاثين سنة، بل منذ دولة الاستقلال في العالم العربي حصل بين الشعوب العربية وبين النخب الحاكمة طلاق واضح. مضت الأنظمة ممارسة الحكم دون استشارة الشعب أو دون أي مساهمة حقيقية له، ومع ذلك ظلت الحكومات الغربية تغض الطرف وتكتفي بالتنديد الخافت.
استعملت الأنظمة العربية الدين، وثبتت التجهيل والتفقير ولجأت إلى الشعارات الإيديولوجية العنصرية، واكتفت ببعض فتات الحداثة ووجدت نفسها مجبرة على استخدام شعارات الإيديولوجيا القوموية البالية والكليشيهات الجامدة للهوية. ومع ذلك تعامل الغرب بمرونة كبيرة خوفاً من فزاعات الإسلاميين تارة وحفاظاً على مصالح نفطية مرة أخرى.
إن الجانب السياسي السريع من أزمة الثقة الحاصلة بين الغرب الرسمي والشعوب العربية يمكن تصحيحه بقرارات أكثر جرأة ومنحازة لقضايا الإنسان، أما الجانب العميق فيحتاج إلى صيغ أكثر تقدماً من قبيل الالتحام بالعالم العربي والمساهمة في تأسيس بنيات مؤسساتية مستقلة وسليمة وتراعي الحراك السياسي والاجتماعي السائد في المنطقة، ولا ينبغي أن ننسى أن غير ذلك لن يساهم سوى في العنف البنيوي المخزون في مجتمعات تقليدية وهشة ومتعبة جراء سنوات طوال من الفساد والاستبداد وخنق الحريات
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3171 - الجمعة 13 مايو 2011م الموافق 10 جمادى الآخرة 1432هـ