في مجتمع كهذا كل ما يبنى اليوم سوف يهدم غدا. وعليه سوف لن يكون هناك تراكم خبرات واندفاع نحو الأمام. في مجتمع كهذا لا معنى للحرية والإبداع وإذا تم رفعها كشعار فإنها مجرد شعار سياسي أو هي هم نخبوي وليس اجتماعياً. في مجتمع كهذا لا يمكن أن تنشأ ديمقراطية صحيحة. في مجتمع كهذا لا يمكن أن تتكون أنظمة معاصرة تتعاطى مع العلم والتكنولوجيا. وما العراق إلا نموذج لما قد تواجهه المجتمعات العربية والإسلامية من اهتزازات رملية تطيح بكل ما تم بناؤه.
الشيء الذي كنت أتوقع أن أجده نهاية الكتاب هو أن يبين زويل أن العلم ليس مجرد معارف وإنما منطق ويحتاج إلى منظومات اجتماعية متطورة وليس مجرد مؤسسات علمية وجامعات. إن معظم مسئولي المؤسسات العلمية العربية نُصِبوا ليس نتيجة منظومة أخيار واضحة كما هو معروف عالميا، وأحيانا حتى ترشيحات القبول للدراسات العليا تكون بعيدة عن منظومات القياس المطلوبة. المنظومة الإدارية العلمية غير موجودة وان وجدت فإنها متعثرة. المنظومة الاقتصادية اللازمة لدعم البحوث غير موجودة وإن وجدت فإنها غير كفوءة بسبب افتقار المنظومة العلمية إلى أجزاء تكميلية أخرى. البلدان العربية مملوءة بالجامعات ومؤسسات البحوث ولكن المشكلة هي عدم وجود منظومات علمية اجتماعية متناغمة يكمل احدها عمل الآخر. مثل هذه المنظومات لا تخلقها الحكومات فقط بل يُنشئها مجتمع متطور ذو مؤسسات حية متجددة. لم يتطرق الكتاب إلى أن عصر العلم هو عصر المجتمع الواعي وليس عصر الأمية الثقافية التي تتفشى في الجامعات.
خلاصة القول ان الوضع الاجتماعي العربي ليس مؤهلا بعد للخطو باتجاه العلم. إن مؤسساتنا التعليمية قد تكون مُجهزة بالكوادر الفنية والطبية التي تستطيع توفير الخدمة اليومية للمواطن والمجتمع ولكن ليس لاحتضان الإبداع والتطوير العلمي. إن قروناً من التخلف لا يمكن أن تزول بافتتاح جامعة أو مئة جامعة. إن قرون التخلف الحضاري تزول عندما تكون هناك نهضة حضارية في أدق أدق مفاصل البيئة الاجتماعية في الأرياف والحواري المهملة وليس العواصم والمدن الكبيرة. للأسف لاتزال المجتمعات العربية بعيدة عن التنمية البشرية وإعادة بناء الإنسان على أسس ومقاييس معاصرة. إن أقصى ما يتم الطموح له هو حملات محو الأمية التي تقود هي ذاتها للامية الثقافية التي أخذت بالسيادة والتربع على عرش الانغلاق الفكري. لقد وجدنا الفرق الزمني بين نوبل عبدالسلام ونوبل زويل عشرين عاماً والرجلان هما صناعة منظومات غربية. كم سيمضي من الوقت لإنتاج عالِم عربي أو إسلامي في بلده. ربما هناك حل هو أن تشتري إحدى الدول العربية الغنية جامعة بركلي الأميركية ويتم تحويل اسمها إلى اسم شاريها على أن تبقى موقعيا في أميركا لكي تتمتع بالبيئة الاجتماعية التي هي شرط أساسي في البناء العلمي. هنا نعود لنقول إن مشكلة الاحتضان الاجتماعي للعلم هي السبب وراء إنشاء المركز الدولي للبحوث النظرية في ايطاليا من قبل محمد عبدالسلام علما بان هذا المركز مخصص لدول العالم الثالث. أو ليست البيئة الاجتماعية ذات تأثير كبير وبالغ في النشاط العلمي؟
إن المؤسسات العلمية الأميركية التي ذكرها زويل وأسلوب أو نظام عملها ما كان ليكون هكذا لو لم يكن هناك نظام اجتماعي راقٍ في المدينة والريف. وليس هناك من وجود للفرق الحضاري ما بين المدينة والريف. ما كان هذا النظام ليكون لو لم تكن هناك حرية فكرية واحترام عالٍ للفكر الإنساني. المجتمعات المعاصرة أنظمة معقدة مترابطة نمت وتطورت خلال القرون الخمسة الأخيرة.
بين زويل سرعة التطور الذي شهدته اليابان والصين وماليزيا. إن استعداد التقبل الحضاري في الصين واليابان عالٍ جدا وليس هناك أية حساسية اجتماعية اتجاه التحديث لذا لم تأخذ العملية ذلك الوقت الطويل. لم يكن هناك في هذه الدول من يعارض دخول القطار والسيارة وجهاز الهاتف بداية القرن العشرين كما كان ولايزال عندنا. أما ماليزيا فان الامتزاج العرقي وخطوات التعليم الجديد قادت إلى نهضتها الاقتصادية رغم أن أهم عنصر اجتماعي في النهضة الماليزية هم من غير المسلمين. إن نظام التعليم يلعب دوره في النهضة الحضارية والتعليم الحضاري المدروس لأجل النهضة هو ليس التعليم الذي يقود إلى الأمية الثقافية الشائعة في المجتمعات العربية.
إن الفرق الحضاري (اقتصاديا وفكريا واجتماعيا) الشاسع ما بين القرية والمدينة العربية أو المسلمة فرق هائل. لذا كانت المدينة العربية عرضة بصورة مستمرة للهجرة الريفية فكرا وعادات وممارسات وأحيانا لانقلابات سياسية. وتبين إحصائيات الأمم المتحدة أرقاما مرعبة عن هذه الظاهرة في دول العالم الثالث وبالذات خلال النصف الثاني من القرن العشرين. هذه الظاهرة هي ذاتها في جميع المجتمعات العربية والإسلامية. مثل هذا التناقض الحاد غير موجود في الصين واليابان. الفرق هناك فرق اقتصادي وليس فكرياً ارتدادياً متجذراً. أما بالنسبة لماليزيا فان نهضتها تعزى لتخطيط مهاتير محمد ومادتها الأساسية الأقليات غير المسلمة. من تجاربي الشخصية وخلال العمل الأكاديمي نتسلم سنويا مجموعة من أسئلة الاختبارات قبل أن تجريها إحدى الجامعات الراقية في ماليزيا لغرض التقييم العلمي للاختبارات كتقييم خارجي. وبإحصائية بسيطة وجدت أن نسبة الأساتذة المسلمين الذين صمموا هذه الاختبارات واحد من عشرين أي خمسة في المئة! علما بان المسلمين هم الأكثرية ويجب أن تتحقق نسبتهم الاجتماعية إلى حد ما في معظم نشاطات المجتمع ومنها المؤسسات العلمية. إن ماليزيا نشطة اقتصاديا أما علميا لاتزال بعيدة وما زال العائق الفكري الارتدادي حاجزا فيها وحالها حال الدول العربية والإسلامية.
أما التجربة التركية التي فرضت العلمنة من فوق ومن دون الاهتمام بإعادة بناء الجذور الفكرية للمجتمع ومحاولة إعادة بناء الفرد في القرية فإنها بدأت تواجه عودة أشباح الفكر العثماني متوجها من القرى والأحياء السكنية البسيطة ذات الأغلبية السكانية. وتركيا هي الأخرى تواجه مشكلة البناء العلمي ولكن ليس بحدة المواجهة العربية.
طرح أحمد زويل خمس نقاط لتحقيق النهضة العلمية في المجتمعات العربية في صفحة 205. أربع منها تركز على إنشاء مؤسسات علمية مثل إنشاء مراكز تفوق جديدة – إنشاء صناعات جديدة – إنشاء مؤسسة وطنية للعلم والتكنولوجيا – إنشاء الأكاديمية العربية للعلوم. فقط واحدة من هذه النقاط دعت إلى إنشاء نظام تعليمي جديد. النقاط الأربع السابقة ليست أكثر من استيراد منظومات علمية وتكنولوجية عرفها العالم المتطور. ولكن استيرادها لا يعني شيئاً من دون مجتمع كفء قادر على التعامل معها. وهذه هي المشكلة الأساسية. النقطة الأولى والخاصة بالتعليم وتطوير منظومته هي الأهم ولذا جاءت في مقدمة النقاط الخمس ولكن ركز زويل هنا على التعليم العلمي. المشكلة الأساسية هي في التعليم فلسفةً وأسلوبا ومحتوىً. مشكلة التعليم الأساسي هي العائق الأساسي الذي يتلاعب بشخصية الإنسان وطريقة تفكيره وسلوكه. لم تتم الإشارة إلى أهمية تعميم التعليم وتغلغله إلى أدق مرافق المجتمع في القرى والحواري الفقيرة ذات الأغلبية السكانية والتي تشكل الوعي الاجتماعي السائد.
ختاما إن ما طرحه أحمد زويل من تجربة بالبناء العلمي دون الانتظار في النهوض الاجتماعي تجربة لم يكتب لها النجاح في البيئات العربية والإسلامية ولابد من أن يكون هناك بناء متوازن ما بين إعادة بناء هذه المجتمعات والبناء العلمي في ذات الوقت. والعملية بحاجة إلى دراسة علمية اجتماعية عميقة
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3157 - الجمعة 29 أبريل 2011م الموافق 26 جمادى الأولى 1432هـ