علَّقَ صديق صدوق على مقال لي بشأن ضرورات السِّلم الأهلي وعدم الانجرار وراء التحريض وافتان المجتمع بقوله: مقالك صرخة في البريَّة لن يُسمَع من أحد. تذكَّرت مثلاً سنغالياً يقول «الجندب يُحمَل في قبضة اليد، ولكن نسمَع صوته في البرية كلها». لا أروِّج ولا أجَمِّل ولا أسَوِّق لما أكتبه أبداً، ولكن اقتناعي التام هو أن ذلك القول يبقى «ضرورة أخلاقية واجبة» وعينية.
إحدى الأخوات قالت لي: واحدٌ يبني وألفٌ يهدمون فما الفائدة؟! ثم سألتني بعد قراءة أحَد المقالات التي كتبتها عن شأننا الاجتماعي: هل مازلتَ ترى أملاً يُرتجَى منه للخروج مما نحن فيه من إشكال؟ قلت: بالنسبة لي فإني لا أقطع الأمل مطلقاً. فما أتذكره من حِكمة في ذلك المجال هو أنني لا أيأس، فعادة ما يكون آخر مفتاح في مجموعة المفاتيح هو المناسب لفتح الباب كما يُقال.
إحداهن عاتبتني لأنني لا أكتب ما يكفي عن أدوار المرأة ونحن في هذا الحال. ذكَّرتها بمقالَيْن لي، عنونت وأفضت في أحدهما بخطاب إحدى الأمهات ذات الأفق الواسع والبعيد عن التطييف، واستهلَّيْت في الآخر بقصة امرأة طيبة حنونة. قالت: هذا لا يكفي أبداً. قلت لها بشيء من المزاح مراضاة لعتبها: ما رأيك لو كتبتُ مقالاً عنكم (النساء) انطلاقاً مما قالته الروائية الإنجليزية أجاثا كريستي: أفضل زوج يمكن للمرأة أن تتزوجه هو عالم آثار، فكلما زاد عمرها زاد اهتمامه بها. ضَحَكت حتى غاصت عيناها داخل جفونها وانطلت عليها الحِيلة.
جميع أؤلئك الأعزاء كان همُّهم الرئيس هو الإجابة عن هذا التساؤل: كيف خسِرنا في بحر شهر واحد فقط ما ربحناه طيلة مئات السنين؟!. الخسارة المعنية بالتأكيد لا دَخْل لها بالسياسة وإنما المقصود الحالة الاجتماعية والشرخ الذي أصاب كبدها. الصحيح هو أن التعويض في ذلك ممكن، لكن الأصحّ منه هو كيف نتفادى أن نخسر مرة أخرى أصلاً لكي لا نضطر لتعويض ما غَرِمناه. فالمُراكَمَة بدل التعويض ستكون هي الأفيد بالتأكيد.
أحد الأخوة الأحبّة ممن يكبرني بعقله وعُمره المديد (إن شاء الله) كان يقول: لو أنَّك مَرَرت على بيت لا تعرف أهله، وطَرَقت بابهم طمعاً في أن يسقوك شربة، ماء وكان لك ما طلبته منهم، فإنك حتماً ستذكر لهم هذا الجميل حتى ولو مَرَرت ببيتهم بعد عشرين عاماً، فكيف بنا نحن البحرينيين الذين شربنا الماء وأكلنا المِلح، وغاص أجدادها البحار مجتمعين، وتعلَّمنا وسافرنا وعمِلنا وتسامرنا وتصاهرنا وتفارحنا وتتارحنا وتاجَرنَا وتحمّلنا الهَمَّ والغَمَّ مجتمعين أيضاً.
مثال هذا الأخ العزيز هو أهمّ من نظرية فلسفية يحجبها قلب أسوَد لدى بعض المتدينين والسياسيين وأدعياء الثقافة والعِلم. كنت أقول مُعقباً على ما تحدَّث: بأن الأزمات علَّمتني كيف أن القلوب هي كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها كما كان يقول يحيى بن معاذ الرازي، لذا فإن أنفع الأعمال اليوم ونحن في أتون البلاء هي غسل تلك القلوب من الأدران. لن ينفع أحد إلاّ ما قِيْل عن أبي الحسن، عن جد الحسن، إنه قال: إن أحسن الحسن الخلق الحسن.
المعركة الحقيقية اليوم التي أمامنا هي كيف نعيد أجواءنا الاجتماعية إلى ما قبل شهر من الآن. على الألسن أن تتحدث بما هو خير. وعلى الأقلام أن لا تنكسر أمام أزمتنا الاجتماعية وأن تقول ما يُطيِّب حال النفوس لا ما يُهيِّجها. وعلى الوجهاء وعقلاء القوم أن يقولوا ويفعلوا شيئاً حكيماً. وعلى البحرينيين أن يفتحوا أبواب بيوتهم لبعض البعض، وأن يُوقدوا نار الضيافة. فوقوع الأعين في الأعين، والصدور بالصدور عناقاً والأيدي وبالأيدي تصافحاً ستذيب كلّ الجليد بيننا
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3155 - الأربعاء 27 أبريل 2011م الموافق 24 جمادى الأولى 1432هـ