العدد 3152 - الأحد 24 أبريل 2011م الموافق 21 جمادى الأولى 1432هـ

مزار الممسوسين بالوجل

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لم تُرَ قط إلا متشحة بالسواد... تلك المرأة التي تشبه رفاهية الينابيع، واسترخاء الوردة... تزدحم روحها بما يشبه سرادقات العزاء... تأوي إلى نومها بعد أن تسترجع شريطاً من الفواجع، ومداهمات ما بعد الثانية فجراً... تتوقف طويلاً أمام دائرة من الدم في المدخل المؤدي إلى البيت مازالت على حالها... لم تمسح شيئاً من آثارها، ومع مرور الوقت تتسع الدائرة التي كانت عبارة عن قطرات متناثرة من دم ابنها الوحيد، يوم أن تم سحبه كالذبيحة بعد أن انهال عليه الجند بأعقاب البنادق والأحذية. لم يتبقَّ لها شيء سوى قراءة هادئة على قبر يُعذِب فرط الحنين صاحبَه، الحنين إلى خطى في دروب لم يتح له الوقت الكافي ليرتاض فيها... حنين إلى وجوه لم يتأملها كما يجب... أعراس شحيحة لم يختلس نفسه من انشغالات داهمته كما يداهم المطر بدويٌ استقال من الرحيل والتراب والخيمة واصطياد أمكنة الغيم، فآثر أحد المجمعات السكنية ذي الحراسة المشددة!

ذات مساء... ذات فرح شحيح، ولَّت وجهها جهة ناي رحب الشجى، مترف في حزنه الرزين. بدأت وبشكل لا إرادي تيقظ الأرض بحركة عنيفة من قدميها... إيقاع لا علاقة له بكل ذلك السيلان اللحني... أخذت تمتم: أيها الزائر السمح... يا ظل وجع مضى... يا غريباً أسدل أمله في نكران الناس وشح الحفاوات... يا موعوداً بالطيش والجلبة والرمق الأخير من السطوع. أنعمْ عليّ بهباتك التي لم تصل عتبة فاقتي بعد... مرّرْ يديك الحانيتين فعلّك تكشف عن بعض كنوز الغيب... أرهقني السهر ولم أسلم من ندوب تركتها آثار سياط كوابيس لا تنتهي... دُلّني على فسحة من خواء... خذ بيدي نحو غفلة لا تقطع الأنفاس... أُمّني لمحو مسافات أبدأ منها درس السفر.

يرتفع الإيقاع الصادر من قدميها... تموج الأرض من تحت قدميها... لكأن الأرض في طريقها إلى صحوة لا تشبه شيئاً. يتجمهر حولها صبية ومشردون وأرامل بلغن أرذل العمر من جلسات الجلد ونصوص اللعنات... اليفين كانوا... كأنها تحرك مياهاً فيهم... تصلهم بما انقطع.

ثمة دم يسيل كلما تصاعدت حركة قدميها... قطرات دم تشكل دائرة تتسع وتتسع وتتسع، ينهمر الدم من ينبوع لا يشبه الينابيع. بدأت الناس والوحوش وحتى الأشياء الصغيرة تأوي إلى ذات البقعة التي انهمر منها الدم. بعد سنوات تحولت البقعة إلى مزار لا يقربه إلا الممسوسون بالوجل والذهاب إلى اللاجهات... لا يقربه إلا القادرون على إيقاظ الأرض من غفوتها الأبدية

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3152 - الأحد 24 أبريل 2011م الموافق 21 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً