تملأ نفس من يتجول، راجلاً أو سائقاً، في شوارع مملكة البحرين، الفرحة المشوبة بالافتخار، وهو يملأ ناظريه باللوحات الإعلانية التي تنضح بالعبارات التي تتحدث عن حب البحرين، والدعوة لوحدة شعبها، ولحمة طوائفها. إحداها تقول بالخط الكبير «أنا البحرين» يحتضنها مقطع بخط أصغر، في اللوحة ذاتها، يؤكد قائلاً «ما أقدر أفارقها». لوحة أخرى تدعو للمشاركة في حملة وطنية تحت شعار «مجتمعنا يجمعنا». وثالثة تقول «كلنا البحرين»... إلخ. تكسر موجة هذه النشوة لوحات أخرى لا تكف عن الترويج للانتقام، والحث على البطش. وتصر على إنزال العقاب بمن تصفهم بالخونة قبل أن يقول القضاء كلمته. مثل هذا التصرف ينم عن سلوك يخالف طبائع أهل البحرين حكومة وشعباً، كما نقرأه ونشاهده في اللوحات الأولى. فبغض النظر عما حملته الأحداث الأخيرة التي عمت البلاد، لكن الشعب ما يزال يحدوه الأمل في طيبة الحكم، ومن ثم فهو يتطلع أن ينال المعتقلون حق المثول أمام محاكم عادلة كما ينص على ذلك ميثاق العمل الوطني، ودستور البلاد المنبثق عنه، والقوانين والأنظمة التي تعضد ذلك الدستور. الجميل في تلك اللوحات الأولى كونها تأتي من جهات شعبية جنباً إلى جنب مع تلك التي ترعاها إدارات رسمية، وبالقدر ذاته تعكس مكوناتها الفنية كل أجيال شعب البحرين، وفئاته الاجتماعية. فإلى جانب صورة الطفل، هناك الكهل، ومن بينهما يطل علينا ما ينم عن طبقات فقيرة مع تلك المتوسطة وما هو أعلى منها.
لكن ما أن يغادر ذلك المتجول تلك الشوارع وزخارفها الوحدوية، ويلج بيته، حتى تبدأ اللوحات في التراجع، وكلماتها المنيرة تخفت كي تحل مكانها، دعوات تتقاطر طائفية وتنز انشقاقاً، تعزز منها نقاشات طائفية سوداء، تشرحها مقاطع تدعو إلى المزيد من الانشقاق، وتشجع على الانتقام، مقابل دعوات طائفية أخرى مشابهة تلقي باللوم على طائفة دون طائفة. كل هذا التقاذف باللوم، المشوب بالتجريم لن يقود إلى نهاية سوى تشطير المجتمع البحرين إلى قسمين متناحرين، إن لم يكن أكثر.
بوسعنا أن نلقي بمسئولية تنامي هذه النزعات الطائفية على من نريد، ونتهم به من نشاء، لكن ذلك لن يضع الأمور في نصابها، وسيبعدنا عن جوهر المشكلة ولبها الحقيقي، والجهة التي تقف وراء هذا المد الطائفي الجارف الذي يهدد بهدم كل ما بنيناه على مدى قرون من الزمان. فحقيقة الأمر أننا إذا أزلنا كل القشور عن تلك الدعوات، ونزعنا الأقنعة عن وجوه كل الراقصين في حلبتها، سوف نجد أننا نحن الشعب المسئول الأول والأخير عنها، بغض النظر عن كل التبريرات التي يسوقها البعض، لنزع المسئولية عن كاهلهم. ليس هناك من يجبر المواطن البحريني اليوم، كي يصفق لمن يعزف على وتر الطائفية، ولايوجد من يرغمه على ترديد، بشكل ببغاوي، تلك المقاطع التي تتقاطر طائفية، فتزرع الشوك في طريق من يسعى بصدق كي يعيد اللحمة للشعب، ويقلص من السلبيات التي تولدت من تداعيات الأحداث الأخيرة.
نناشد المواطن أن يقف اليوم، عارياً أمام نفسه، وقفة مصارحة شجاعة مع الذات، بعيداً عن السلطة ومؤسساتها، سائلاً إياها (النفس)، من الذي سينجح المشاريع التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه؟ لماذا نسهل الطريق على من يريد أن يوقعنا في هذا الفخ الطائفي؟ لماذا نساهم، بوعي أو بدون وعي، في تزويد المد الطائفي الذي يجتاح البحرين، بما يحتاجه من طاقة تعينه على الانتشار أولاً، والاستمرار ثانياً؟ لماذا تحولت جلستنا العائلية من أحاديث تظللها المحبة، إلى أخرى مغايرة تنز بالحقد على بعضنا البعض، وتشجع الخصومات بدلاً من ان تبذر الصداقات؟
ليس القصد هنا إعفاء القوى الأخرى ممن تدفعها مصالحها للترويج للطائفية، بقدر ما نحاول أن نلفت نظر المواطن الكريم، وفي حديث مصدره القلب الصادق المحب، أن يكون حذراً فلا يقع، ضحية سهلة لمشروع طائفي قد لا تكون معالمه واضحة اليوم، لكن بما لا شك فيه أن الزمن لن يسمح له بأن يظل مخفياً إلى الأبد.
حديث من القلب يناشد شعب البحرين بكامل طوائفه وفئاته، أن يكف عن ترديد إشاعات تصب في طاحون الطائفية، وأن يتوقف عن نقل روايات تملأ أذهان أبنائنا بمشاهد الطائفية التي تترسخ بشكل تدريجي حتى تتحول، رويداً رويداً، ودون أن يعي اولئك الأطفال، وهم رجال الغد، إلى جزء من ذاكرتهم الحية، الذي يترجم، في مراحل لاحقة، إلى سلوك يرافقهم في مجمل حياتهم، والأنشطة التي يمارسونها.
حديث القلب هذا يطمح في أن يكون عامل توعية ينبهنا، إلى السلوك الطائفي، الذي باتت الأغلبية الساحقة منا، بوعي منها أو بدون وعي، تروج لبرامجه، وتدعو الآخرين للقبول بها والانخراط في أنشطتها.
نريد لتلك اللوحات الجميلة المشعة بشمس حب البحرين، أن تتجاوز الشوارع التي علقت على جوانبها، وأن تدخل، رغم كل الموانع التي نصبت في وجهها، إلى تلك المنازل، ومنها تتسلل إلى قلوب أهلها كي تنزع منها ثمرة الطائفية الخبيثة وتزرع مكانها ورود المواطنة الصحيحة القائمة على حب الواحد منا للآخر، وحرصه على القبول به، وتمسكه بضرورة التعايش الإيجابي معه، ضارباً عرض الحائط بكل الدعوات التي تحاول شق المجتمع، وتمزيق نسيجه الاجتماعي
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3151 - السبت 23 أبريل 2011م الموافق 20 جمادى الأولى 1432هـ