تماماً كما ينفعل الأشخاص كأفراد، كذلك تنفعل الشعوب كمجموعات، ولا تختلف عنهما الحكومات والدول. ومثلما يفقد الإنسان الفرد سيطرته على سلوكه عندما ينفعل، حيث يصبح منتشياً في الأفراح، ومكتئباً في الأتراح، وفي كليهما، وبفضل ما طرأ على نظامه الذهني وانعكس على سلوكه الجسدي، فراح يأتي بأعمال لا يقوم بها أثناء حياته الاعتيادية. كذلك الشعوب في مراحل انفعالاتها، نجدها - دون أن تكتشف هي - ترفع شعارات راديكالية، وتمارس أنشطة متطرفة، قد ترفضها، في مراحل النضال الاعتيادية. بل ربما ترى فيها شيئاً من التطرف غير المنطقي بالمقاييس الاعتيادية. والأمر ذاته ينطبق على الحكومات التي قد تلجأ إلى سياسات قد تبدو لها في مراحل الانفعال طبيعية، لكنها مقارنة بالأوضاع الطبيعية، تكون استثنائية، وبما يشوبها الكثير من معالم التطرف غير المبرر.
لكن الأكثر أهمية، كما نحن عليه اليوم، هي المراحل التي تعقب الانفعال، عندما يعود جميع الأطراف عن توترهم، وتجبرهم قوانين سير الحياة على إعادة النظر في كل ما قاموا به خلال فترة الانفعال. وكثيرة هي الفروقات بين الأفراد من جهة، والشعوب والدول من جهة ثانية. على أن أهم ظاهرة تميز الأولى عن الثانية، هي أنه بينما يستغرق شفاء الأفراد من حالات الانفعال أوقاتاً قصيرة، يتطلب تخلص الشعوب والحكومات من انفعالاتها مراحل أطول. وإن كانت فترة نقاهة الأولى تقاس بالأشهر أو السنين، فإن الثانية تبلغ نضجها بعد مضي عقود، وربما فترات أطول من ذلك.
ما نشهده اليوم في البحرين هو حالة، أو مرحلة انفعالية تشمل شعباً، وردة فعل، هي الأخرى انفعالية، معنية بها الدولة. وإن كان من المتأخر اليوم تقويم انفعال المعارضة البحرينية التي رفعت، وهي في قمة انفعالها، شعارات متطرفة، وغير قابلة للتحقيق، عندما تؤخذ الأوضاع البحرينية المحلية والإقليمية بعين الاعتبار، فليس من المبكر أن نتوقف حيال ما أصبحنا نلمسه من ردة الفعل الحكومية التي نأمل جميعنا، أن تقودنا إلى ما نسعى له من خير يعم البحرين بكل فئاتها وأطيافها السياسية والاجتماعية.
لذا وعندما نتوقف عند سياسات الجولة اليوم، نلمس هذا الانفعال الحكومي في الإجراءات التي تلجأ إليها الدولة، من أجل حرصها - كما تقول - إلى إعادة الأمور إلى نصابها، واستعادة الاستقرار الذي وأدته أحداث 14 فبراير، التي ليس هنا مجال الخوض في سلوكها. فالقصد هنا، واليوم على وجه التحديد، تلافي الأمور كي لا يتسع نطاق الانفعال، فيقودنا جميعاً إلى ما لا تحمد عقباه، ويندم الجميع، حينما لا ينفع الندم. ليس هنا من يحق له الاعتراض ضد ما تقوم به الدولة، من أجل استعادة الاستقرر، وإعادة الحياة إلى دورتها الطبيعية، على المستويات كافة: اقتصادية، واجتماعية، بل وحتى سياسية، طالما جرى كل ذلك كما ينص عليه الدستور، وتنظمه القوانين المنبثقة عنه. فمن واجب الدولة أن تكف يد من تسوّل لهم نفوسهم العبث بأمن البلاد واستقرارها، أو من يحاول أن يتخطى القوانين، والذي لا يمكن أن يقود إلى أيِّ هدف آخر سوى الفوضى. لكن أداء هذا الواجب، ولكي يكون حلاً مجدياً، وعلاجاً شافياً، لا يترك وراءه أيَّ شكل من أشكال الحقد أو الضغينة أو حتى مجرد الاحتقان، لابد له من أن يكون في نطاق تلك القوانين التي نتحدث عنها.
اليوم، حيث نأمل أن يكون الطرفان الدولة والمعارضة قد تجاوزا مرحلة الانفعال، وبأن كليهما قد خرج، على حدة وبشكل مستقل، أو بشكل مشترك، من حالة الانفعال، فليس هناك وقت أفضل من أن يجلس كل منهما، أولاً بشكل ذاتي منفرد، وبعدها بشكل ثنائي، من أجل تقويم سلوك مرحلة الانفعال وتشخيص السلبيات التي أفرزتها، والدمار، وعلى وجه الخصوص الاجتماعي وتحديداً في صفوف الأجيال الشابة، الذي خلفته، من أجل استخلاص الدروس، والوصول إلى الاستنتاجات التي من شأنها، متى ما كانت موضوعية، وصحيحة أن تكون صمامات الأمان التي تحول دون تكرار ما جرى في الأسابيع التي تلت 14 فبراير 2011 مرة أخرى.
يناشد المواطن الدولة، ومن منطلقات تمسكه بكل ما يعزز من حضورها، ودحض كل ما يمكن أن يقلل من احترام أنظمتها وقوانينها، أن تشاركه مثل هذا الشعور، فتحرص هي الأخرى على أن تكون سياساتها غير انفعالية. وليس من شك في أن قدرة الدولة على ضبط النفس، وعدم الانجرار إلى تداعيات الانفعال، مسألة في غاية الدقة وتتطلب الكثير من الارتفاع فوق الآلام، والقفز فوق كل ما مس، أو يمكن أن ينال من، هيبة الدولة ومكانتها. لكن كل تلك الأمور تبقى ثانوية وهامشية عندما ينظر لها من منطلق استراتيجي، ومن مدخل وطني محض.
على هذا الأساس، يأمل المواطن أن تطوي الدولة صفحة الانفعال، وتفتح فصل الصلح، كي تعود للبحرين دورتها الطبيعية، ويستعيد المجتمع عافيته السياسية، ويسترجع قوته الاقتصادية، وتتفتح رحابة صدره الاجتماعية، وهي أمور لا تتحقق إلا في مرحلة ما بعد الانفعال
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3146 - الإثنين 18 أبريل 2011م الموافق 15 جمادى الأولى 1432هـ