يصاحب تطورات المجتمعات البشرية، وتقدمها الاقتصادي والعلمي والسياسي، تحولات نوعية تمس صلب تركيبتها السكانية، وتؤدي إلى تغييرات جوهرية في المكونات الأساسية للهرم الاجتماعي الذي يحتضن مكونات تلك المجتمعات. ومن الطبيعي أن ينعكس كل ذلك، نظراً إلى علاقة التأثير الوثيقة بين سلوك الإنسان الوظيفي والتطورات التي يشهدها المجتمع الذي يعيش فيه، على المهن التي تمارسها تلك القوى السكانية المنتجة، وفئات التصنيف التي تقسم تلك المهن تحت مظلتها. نأخذ على سبيل مهنة كالطب، كنا نسمع عن تخصصات عامة مثل هذا طبيب جراح. لكن مع تطور مهنة الطب، وجدنا جراحاً متخصصاً في الأعصاب، ثم تعقدت التخصصات فوجدنا من يتخصص في جراحة قسم فقط من الأعصاب، وهكذا. الأمر ذاته ينطبق على تخصصات الهندسة أيضاً، التي كانت، في البداية، مقتصرة على فئات عريضة مثل الميكانيكية، أو الكهربائية، ثم وجدناها تغوص في تخصصات مثل الهندسة الكهرومغناطيسية، أو هندسة الدوائر الصغيرة المغلقة... وهكذا. وليس هناك أفضل تفسير لكل هذه الظواهر، من فهم علاقات التأثير المتبادل بين متطلبات السوق وتطور الصناعة من جهة، وتقدم المؤسسات الأكاديمية وكليات البحث العلمي المنبثقة عنها من جهة ثانية، فهي التي أدت إلى نمو ذلك التقدم العمودي في التخصصات الأكاديمية، والمهن المنبثقة عنها.
الأمر ذاته ينطبق على قطاع التجارة، فمن التجارة العامة، إلى تجارة المواد الغذائية فقط، على سبيل المثال، ومنها إلى تجارة الألبان كقطاع متخصص في الإطار التجاري العام. لكن ما ميز التجارة عن سواها من المهن الأخرى هو تداخلها العميق مع التحولات السياسية، وتشابكها مع الاقتصاد المتفاعل بدوره مع تلك التحولات. هكذا رأينا بروز فئة التجار محدثي النعمة، وإلى جانبهم تجار الحروب. وإذا كانت الصفة الأساسية للتجار من محدثي النعمة هي الهشاشة، والتصرفات السلوكية الشاذة غير السوية بمقياس الطبقات التجارية الأرستقراطية، فإن أهم صفات التميز لتجار الحروب، هي انعدام ضمائرهم، وضربهم عرض الحائط لكل القيم الإنسانية، طالما أنها لا توفر نسب الربح العالية التي يحلمون بها، والتي من أجلها لا يترددون في أن يضحوا بإنسانيتهم، ويفقدوا مع تلك التضحية كل سلوكيات الإنسان ككائن اجتماعي صالح.
ظاهرة جديدة تفشت في المجتمع البحريني مؤخراً، ولدتها، بشكل طبيعي ومتوقع، أحداث الأزمة الأخيرة، وتلك هي بروز فئة تجارية يمكن أن تصنف بفئة «تجار الأزمات». فقد بتنا نشهد انتعاش كتلة اجتماعية معينة، لها سمات مشتركة تميزها عن الآخرين، لم تكن معروفة قبل اندلاع الأزمة الأخيرة. نجحت هذه الفئة، من خلال الظروف التي أفرزتها تلك الأزمة، في إحاطة نفسها بإطار اجتماعي محدد مكنها من احتلال مساحة لا يستهان بها من الأرض التي تتشارك فيها مع الفئات والقوى الاجتماعية الأخرى، لكنها، رغم كل المكاسب المعنوية والمادية التي حققتها، لاتزال تجاهد من أجل الحفاظ على موقعها المتصدر الصفوف، بعد أن تمكنت بفضل ما تزودت به من صفات تتناسب والظروف التي تولدها الأزمات، أن تحتل موقعاً متقدماً في سلم التقسيم الاجتماعي، يتلازم مع نفوذ وإن كان محدوداً في الفضاء السياسي. الهم الذي يتحكم في ذهنية تجار الأزمات هؤلاء يتفرع على غصنين رئيسيين هما:
1 - معنوي، لا تكف هذه الفئة عن تشويه صورة الآخرين في أعين النظام، ولا تتردد في كيل التهم لهم، مع حرصها على أن يترافق ذلك بتجميل صورتها لدى صناع القرار. لذلك نجدها، ومن أجل الوصول إلى أقرب الكراسي من صناع القرار، لا تتردد في تزوير الأخبار، واختراع الروايات الفاضحة في كذبها، آملة أن يتراكم كل ذلك في رصيدها الذي يؤمن لها مردوداً معنوياً يميزها عن الآخرين، بعد أن تهشم صورة رجالات البلاد ووجهائها. وبقدر ما تنخفض كفة هؤلاء الآخرين، بقدر ما ترتفع كفة أولئك الانتهازيين من تجار الأزمات، الآخذة أعدادهم في التزايد كلما طال أمد الأزمة، أو تنامت تداعياتها.
2 - مادي، تحاول تلك الفئة، أن تجير مكاسبها المعنوية لصالح مغانمها المالية، فنراها مندفعة لاقتناص أية فرصة تعود عليها بمكاسب مادية، فتحولها إلى أحد مغانمها التي لم تكن لتحظى بها، لولا نجاحها في توجيه لكمة قوية للفئة الأولى العريقة في جذورها التاريخية. ورويداً رويداً تطفو هذه الفئة المستفيدة من ترويج القوانين الملائمة لتنامي نفوذها، وتعزيز وجودها، على السطح، وتحصد جوائز تجييرها لكل الصفات السلبية التي ألصقتها زوراً بالفئات الأخرى، كي تصب جميعاً في إصلاح أوضاعها - هي - المستجدة، التي غالباً ما تكون على حساب الفئات الأكثر عراقة في المجتمع، وجذورها أشد رسوخاً في تربته، ومن ثم فهي أكثر إخلاصاً من فئة تجار الأزمات الطفيلية.
كل ذلك يستدعي أن لا ندع تجار الأزمات يواصلون تحكمهم في رقابنا، ولا نسمح لهم بتسلق الهرم الاجتماعي، من خلال إعادة رسم معالم قواه الاجتماعية، مع تعزيز مواقعهم في سلم التراتبية الاجتماعية، الأمر الذي يهدد بهز العناصر الاجتماعية التي تحفظ توازن ذلك الهرم وتحول دون انقلابه رأساً على عقب. هذا يضع أمامنا خياراً واحداً لا رجعة عنه، وهو أن لا تنعم هذه الفئة المتطفلة بالعيش فوق أحضاننا
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3141 - الأربعاء 13 أبريل 2011م الموافق 10 جمادى الأولى 1432هـ